ترامب وهيلاري في المُخيّلة الروسية
يسود في المجتمع الروسي، سواء على مستوى الخبراء والمراقبين أو على مستوى قطاع من الرأي العام، تصور بأن فوز دونالد ترامب بالسباق الرئاسي في الولايات المتحدة الأميركية سيكون أفضل بالنسبة الى روسيا. فاستطلاعات الرأي الروسية تشير إلى أن نحو 39 في المئة من الروس المهتمين بالانتخابات الرئاسية الأميركية يرغبون برؤية ترامب رئيساً جديداً للولايات المتحدة، بينما 13 في المئة فقط يفضلون هيلاري كلينتون. وتذكر هذه الاستطلاعات أن نحو 83 في المئة في روسيا ينظرون بشكل سلبي إلى باراك أوباما، ومن ثم لـ «الديموقراطيين في الولايات المتحدة. هذه النتائج تعكس، بالطبع، تأثير تصريحات ومواقف هيلاري كلينتون ودونالد ترامب خلال الحملة الانتخابية على المواطن الروسي، والعلاقات المتوترة بين روسيا والولايات المتحدة بسبب جملة من القضايا، ومنها الأزمة السورية.
إن قسماً من المواطنين الروس المتابعين للحملة الانتخابية في الولايات المتحدة لا بد أن ينجذبوا إلى تصريحات ترامب، التي يمتدح فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ويعتبره أفضل من أوباما. هذا القسم ينجذب كذلك إلى تصريحات ترامب المتعلقة بشبه جزيرة القرم، التي وعد فيها باحتمال الاعتراف بالقرم كجزء من روسيا، وما قد يترتب على ذلك من إلغاء عقوبات واشنطن ضد موسكو بسبب الأزمة الأوكرانية. وينقلب هذا الانجذاب إلى نفور تجاه هيلاري كلينتون، التي تعتبر روسيا تهديداً للولايات المتحدة و «حلف شمال الأطلسي» ووحدة أوكرانيا، على سبيل المثال لا الحصر. هذه الصورة الذهنية لكلا المرشحين الرئاسيين الأميركيين في مخيلة بعض الروس تتغذى أيضاً على ما ينُشر بين الفينة والأخرى في وسائل إعلام روسية عن تحبيذ فوز المرشح «الجمهوري» بالرئاسة الأميركية بالنسبة للكرملين، حيث تتوقع وسائل الإعلام هذه تغيُراَ إيجابياً في العلاقات الروسية ـ الأميركية مقارنة بحالة فوز المرشحة «الديموقراطية».
في أروقة الخبراء الروس المتخصصين بالشأن الأميركي، تعلو منذ سنوات عدة وجهة نظر مفادها أن تعامل روسيا مع «الجمهوريين» الأميركيين أسهل بكثير من التعامل مع الحزب «الديموقراطي». ويُعزي هؤلاء رأيهم هذا إلى أن «الجمهوريين» لا يهتمون بموضوع الديموقراطية والحقوق السياسية والفردية في روسيا خلافاً لـ «الديموقراطيين»، الذين اعتادوا على انتقاد موسكو في هذا الشأن. لكن وجهة النظر هذه لا تتطرق عادة إلى ما يمكن أن يكون لـ «الجمهوريين» من أفضلية على «الديموقراطيين» في التعامل مع روسيا بشأن قضايا مثل الدرع الصاروخية وتوسع «حلف شمال الأطلسي»: والسلاح النووي وغيرها من القضايا الشائكة بين البلدين. في الحقيقة، الفارق هنا ضئيل بين الحزبين الأميركيين، ولا تُوجد عملياً أفضلية لأحدهما على الآخر في هذا الشأن.
إن بعض الخبراء الروس في الشؤون السياسية، ومنهم الباحث بوريس ميجويف، يعتقد أن «الجمهوريين» يتفهمون بوتين أكثر من غيرهم، حيث تجمعهم بالرئيس الروسي بعض القيم المحافظة. ويستند ميجويف وغيره من الباحثين الروس الذين يتبنون وجهة النظر نفسها، إلى ما أعلنه الرئيس الروسي في العام 2013 خلال خطابه السنوي أمام البرلمان الروسي من «أن روسيا لا تسعى إلى فرض هيمنتها على العالم، ولكنها تريد أن تكون مدافعاً عن السيادة الوطنية والقيم المحافظة». ويقصد بوتين هنا «النزعة المحافظة الروسية» التي تحافظ على القيم التقليدية الروسية وتدافع عنها، والقائمة على ما يُسمى بـ «الرسالة» التاريخية لروسيا التي لا تخلو من البعد العالمي. ويمكن إرجاع الجذور الفكرية الفلسفية والسياسية للنزعة «المحافظة البوتينية» إلى الأفكار الموروثة عن التيار السلافي القومي، المرتبط في أحد مكوناته بالمسيحية الأرثوذكسية، الذي كان في مواجهة «التيار الغربي» في الفكر الروسي في القرن التاسع عشر. ويمكن إرجاع هذه الجذور كذلك إلى «التيار الأوراسي»، الذي ظهر أول ما ظهر في صفوف المهاجرين الروس في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، والذي يتلامس، بدرجة أو بأخرى، مع «التيار السلافي» القومي الروسي. أصحاب وجهة النظر القائلة بالعامل المُحافظ المشترك بين روسيا بوتين وأميركا ترامب يعتمدون أساساً على ما ألمح إليه الأخير من تحبيذ النزعة «الانعزالية»، التي لها جذور تاريخية في الولايات المتحدة. ولكن ترامب في مناظرته الأولى مع كلينتون أعلن صراحة أن «من سيدفع المال، ستقوم واشنطن بحمايته». وهذا يعني أن الرجل يفكر في قضايا السياسة الدولية بعقلية التاجر ورجل الأعمال في المقام الأول.
بخلاف الآراء السابقة، يرى فريق آخر من الخبراء الروس أنه سواء فازت هيلاري كلينتون أو دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية، فإن قضية التنافس والصراع بين الولايات المتحدة وروسيا على الساحة الدولية ومناطق النفوذ ستظل قائمة. ويستند هؤلاء إلى أن حجم التباينات والخلافات حول المصالح بين البلدين بات كبيراً بدرجة لا تسمح لترامب بالتغلب عليها، خاصة في ظل الصقور داخل «الحزب الجمهوري». ويعتقد أصحاب هذا الرأي أن الميل الروسي نحو تحبيذ فوز ترامب بالرئاسة الأميركية، هو في الأساس اختيار بين أهون الشرين لا أكثر. هؤلاء يرون أيضاً أن الرئيس في الولايات المتحدة الأميركية لا يقرر كل شيء، حيث يُوجد تأثير كبير للكونغرس والمؤسسة العسكرية الأمنية والمجمع الصناعي العسكري والاحتكارات الكبرى. ويقولون إنه لا يمكن بأي حال من الأحوال ضمان تنفيذ ترامب لوعوده بالتقارب مع روسيا في حال وصوله إلى كرسي الرئاسة في الولايات المتحدة، حيث أنه يتقلب كل يوم في تصريحاته ومواقفه.
بغض النظر عن فوز هيلاري كلينتون أو دونالد ترامب بالرئاسة في الولايات المتحدة، فإنه ليس من الصعب رصد أن هذا البلد يمر بمرحلة مرتبكة ومعقدة منذ تولي باراك أوباما للرئاسة. وهذه المرحلة مليئة بالتناقضات والخلافات، التي ستُورَّث للرئيس الأميركي الجديد. والخلافات مع روسيا ليست قليلة ولا هي قابلة للحل على وجه السرعة، حتى إن كان ترامب الرئيس القادم، كما يتصور بعض الروس. فالتيارات «المُحافظة» في العالم لا يمكن أن تتناغم على الدوام، بل يمكن أن تتصادم أيضاً.
نشرت للمرة الأولى في "السفير"