روسيا والصين.. الحد من النفوذ الاقتصادي الأمريكي في آسيا والمحيط الهادئ
نظرا للمحاولات الجديدة من جانب الولايات المتحدة الساعية لإنشاء هياكل التكامل الاقتصادي التي من شأنها كبح جماح الهيمنة الصينية في المنطقة، تعمل بكين على بناء تعاون اقتصادي أعمق مع بلدان آسيا والمحيط الهادئ الأخرى - بما فيها روسيا.
في مواجهة المنافسة المتزايدة من الولايات المتحدة للعب دور قيادي في النمو الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ، فإن الصين تعتبر تعزيز الشراكة الإقليمية الاقتصادية الشاملة، أولوية إستراتيجية رئيسية. وعلاوة على ذلك، فقد أضاف تحسن علاقات الصين مع شركائها الإقليميين مؤخرا عاملا للاستعجال في هذا التكامل الاقتصادي.
الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة هو اتفاق التجارة الحرة المقترحة (FTA) بين عشرة دول أعضاء في رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) - بروناي وميانمار وكمبوديا واندونيسيا ولاوس وماليزيا والفلبين وسنغافورة وتايلاند وفيتنام وكذلك مع اتفاق التجارة الحرة للدول الستة الحالية الشريكة في اسيان (أستراليا، الصين، الهند، اليابان، كوريا الجنوبية ونيوزيلندا) -.
رسميا، أعلنت الاسيان مع شركاء الحوار الستة بدء المفاوضات على الشراكة الإقليمية الاقتصادية الشاملة في أغسطس عام 2012 في كمبوديا، خلال اجتماع 44 وزيرا من وزراء اقتصاد الاسيان. مع أن المرحلة الأولى من تشكيل المبادرة الاقتصادية متعددة الأطراف جرت في أواخر عام 1990 .
لقد كان للأزمة المالية الآسيوية في الفترة 1997-1998 تأثير سلبي خطير على التنمية الاجتماعية والاقتصادية في معظم دول المنطقة. في ظل هذه الظروف، فإن المهمة الرئيسية للاسيان كمنسق لمبادرات التكامل في منطقة آسيا والمحيط الهادئ هو إيجاد طرق للتقليل من آثار الأزمة المالية. عرفت دول المنطقة أنه من المستحيل تحقيق هذا الهدف من دون الدعم النشط من دول المنطقة الأكثر تطورا مثل اليابان والصين وكوريا الجنوبية.
وكانت الخطوة الأولى هي تشكيل منطقة تجارة حرة شرق آسيا (EAFTA)، والتي تم تقديمها من الصين في عام 2001. وحاز إطلاق هذا المشروع على دعم فوري من أعضاء المجموعة مثل ماليزيا، التي تنظر إلى EAFTA كآلية فعالة للتغلب على الركود الاقتصادي وبناء التعاون الشامل مع دول شمال شرق آسيا.
اعتبرت الصين أن آلية الاسيان + 3 هي "موجه" وقناة رئيسية للتعاون في شرق آسيا. (آسيان + 3 تشمل أعضاء الرابطة العشرة، بالإضافة إلى الصين واليابان وكوريا الجنوبية) وتهدف إلى التعزيز التدريجي لمواقف بكين في السياسة الخارجية في آسيا والمحيط الهادئ ويظهر طموح القيادة الصينية للعب دور قيادي في منطقة شرق آسيا، في محاولتها رسم الاتجاهات الرئيسية ومبادئ العمل من خلال منصة حوار جديدة لمصالحها الخاصة. أحد المؤشرات على ذلك هو عدم اهتمام الصين في التوسع التدريجي في المنطقة.
لذلك، تنظر الصين إلى الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة RCEP كأداة لتعزيز دورها في العمليات الاقتصادية والإقليمية خلال فترة انتقالية بالنسبة لمعظم دول آسيا والمحيط الهادئ. باستخدام آلية للشراكة آسيان + 3، كما تأمل بكين بتنفيذ أهداف محددة للسياسة الخارجية.
الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة RCEP كبديل للنظام العالمي الأميركي
أحد الأسباب الرئيسية التي تدفع الصين إلى تكثيف عمليات تشكيل الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة RCEP هو ازدياد قوة الولايات المتحدة في آسيا والمحيط الهادئ، وهو الاتجاه الذي بدأ في عهد الرئيس باراك أوباما. وينظر لهذا التحول من خلال تركيز سياسة واشنطن الخارجية تجاه منطقة آسيا والمحيط الهادئ من خلال النفوذ الاقتصادي (تعزيز التعاون مع دول شمال شرق آسيا وجنوب شرق آسيا)، ومن خلال التعاون العسكري والسياسي (حوار مكثف مع الحلفاء الرئيسيين - اليابان وكوريا الجنوبية والفلبينيين)، بالإضافة إلى صعود الخطاب المناهض للصين.
جوهر هذا المحور يمكن رؤيته بسهولة من خلال سعي الولايات المتحدة على تأسيس الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP) كأكبر مبادرة للتجارة أكثر من أي وقت مضى. اذا حكمنا من خلال نبرة التصريحات التي تصدر من المؤسسات الأمريكية (بما في ذلك الرئيس أوباما)، فإن الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP) هي في الواقع وسيلة لردع الصين. "لا يمكن أن نسمح لدول مثل الصين بتغيير قواعد الاقتصاد العالمي"، وفق أوباما.
درجة عالية من التسييس تتضمنها مبادرة الشراكة عبر المحيط الهادئ TPP وتستند على الطبيعة الشاملة للاتفاق الذي يظهر مجموعة من القضايا التي تعتبر حساسة بالنسبة للصين والمبادرة تستبعد أية فرصة لانضمام الصين إليها. السيناريو الأكثر ترجيحا في المدى القصير والمتوسط لبكين هو تعزيز مبادرات ومشاريع التكامل الاقتصادي الإقليمي، بما في ذلك طريق الحرير، حزام اقتصادي، والشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية.
لذلك، ترى القيادة السياسية الصينية أن مبادرة الشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية RCEP هي محاولة لمنع تشكيل الهيكل الاقتصادي بين الولايات المتحدة وبين آسيا والمحيط الهادئ، وتجنب خلق تحالف إقليمي مناهض للصين تحت رعاية الولايات المتحدة.
الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة RCEP كجزء من استراتيجية إقليمية للصين
الصين، كونها قوة عظمى إقليمية، تتصور بناء العلاقات الإقليمية جنبا إلى جنب مع تشكيل "وحدة المصير المشترك" (كعمود فقري لمفهومي التنمية والأمن بهدف تحقيق التنمية على أساس المصالح والقيم المشتركة) لأهمية ذلك من الناحية الإستراتيجية. وعلاوة على ذلك، فإن تنفيذ مبادرة الشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية RCEP يتوافق تماما مع مفهوم النهضة السلمية للصين، وهو ما يعني ضمنا دورا أكثر نشاطا في عمليات الاندماج والمساهمة في التنمية والازدهار العالمي.
من أجل فهم مكان مبادرة الشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية RCEP في إستراتيجية السياسة الخارجية للصين، فمن المهم أن ننظر إلى الدول الأعضاء المعنية بالمبادرة. فهي تشمل البلدان من الحلفاء الرئيسيين للولايات المتحدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، بما في ذلك اليابان وكوريا الجنوبية. ومع ذلك، فإن العنصر الأكثر سلبية في العلاقات الثلاثية هو التوترات السياسية التي يكون لها تأثير سلبي على تطوير العلاقات الدبلوماسية والتجارية والاقتصادية، وخاصة بين اليابان والصين.
وخلال الفترة 2011-2015، انخفض حجم التبادل التجاري بين طوكيو وبكين من 345 مليار دولار إلى المستوى الحالي الذي يبلغ 279 مليار دولار. ازدادت التوترات بين الصين واليابان بسبب النزاع على جزر سينكاكو / دياويو في العام 2012، عندما تم إطلاق المفاوضات على مبادرة الشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية RCEP للمرة الأولى.
حجر العثرة الرئيسي في الحوار بين اليابان وكوريا يتعلق ببعض المشاكل التاريخية، وهي مشكلة العبودية الجنسية من قبل الجيش الياباني خلال الحرب العالمية الثانية.
وقد أعلن الطرفان مرارا أنهم يحاولون عدم الخلط بين الخلافات السياسية وبين التعاون الاقتصادي ويحاولون تشكيل "علاقات من نوع جديد" لذلك، هناك حاجة ملحة لـ"إعادة ضبط" العلاقات وإنشاء قنوات اتصال دائمة ، مما يعزز أهمية هذه المنصات من خلال "آسيان + 3".
في مثل هذه الظروف، ينظر لتعزيز مبادرة الشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية RCEP من قبل قيادة الدول الثلاث باعتبارها وسيلة لتعزيز الترابط الاقتصادي ورفع مستوى الثقة المتبادلة. الى جانب ذلك، أظهرت التصريحات الرسمية من الدول "الآسيوية الثلاث" ضرورة تكثيف المفاوضات بشأن إنشاء RCEP، على وجه الخصوص، خلال القمة الثلاثية في سيول يوم 1 نوفمبر 2015.
لذلك، ترى الصين مبادرة الشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية RCEP كآلية لتعميق التعاون الاقتصادي مع دول شمال شرق آسيا، الذي يخدم بالتأكيد مصالح كل من الدول الثلاث.
وأخيرا، تهدف الصين إلى استخدام منصة مبادرة الشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية RCEP في نهاية المطاف لخلق منطقة للتجارة الحرة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ (FTAAP)، حيث تلعب بكين أحد الأدوار الرئيسية. على وجه التحديد، أعلن رئيس مجلس الدولة لي كه تشيانغ ذلك خلال منتدى بواو لآسيا، الذي حدث في عام 2014 في جزيرة هاينان.
الى جانب ذلك، تهدف الصين إلى تعزيز مبادرة الشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية RCEP بغرض تخفيف التوترات السياسية مع الشركاء في جنوب شرق آسيا بالمشاركة المباشرة في حل النزاع الإقليمي في بحر جنوب الصين (فيتنام والفلبين وماليزيا وبروناي).
ووفقا للموقف الرسمي فإن مبادرة الشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية RCEP على عكس TPP لا تهدف إلى إعادة صياغة القواعد الحالية للتجارة العالمية ولكن فقط تسعى لتوحيد ومواءمة المعايير الدولية في العلاقات التجارية والاقتصادية. وفي الوقت نفسه لا تخفي الصين حقيقة أنها، من خلال تشجيع مثل هذه المبادرات، تهدف إلى الحصول على قدر أكبر من الاستقلالية والمرونة في اتخاذ القرارات الاقتصادية الدولية.
الآثار المترتبة على روسيا
مع الأخذ بعين الاعتبار أن روسيا تكثف سياستها الخارجية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ وتعزز الشراكة الإستراتيجية مع الصين فإن روسيا مهتمة في تعزيز مبادرة الشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية RCEP. المهمة الاستراتيجية لموسكو هي الحصول على التكامل في الإنتاج والتوزيع والتكنولوجيا مع آسيا والمحيط الهادئ، وخلق "قصة نجاح" في الشرق الأقصى، كتشكيل سلسلة من المجموعات ذات التقنية العالية في مناطق الشرق الأقصى للبلاد.
على وجه الخصوص، أصبحت هذه المنطقة ذات أولوية خلال الرئاسة الروسية لأوبيك في عام 2012. مبادرة الشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية RCEP، كمشروع للتكامل، يهدف إلى بناء الترابط الإقليمي من خلال تطوير البنية التحتية عبر الحدود وتعزيز القاعدة المؤسسية للتعاون الاقتصادي متعدد الأطراف.
في إطار الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وقعت روسيا على اتفاق للتجارة الحرة مع فيتنام. وهناك اتفاق مماثل مع الاسيان مما يعني إزالة عقبة رسمية لانضمام روسيا إلى مبادرة الشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية RCEP. وعلاوة على ذلك فإن الصين والاسيان يرحبان بروسيا. الدافع من وراء هذا الموقف هو رغبة الجانبين للمضي قدما نحو بناء الشراكة الأوراسية الشاملة، لبناء تعاون جيو استراتيجي على مساحة الجغرافية بين روسيا والصين وآسيان كمراكز رئيسية للسلطة.
وأخيرا، فإن العامل الأمريكي يلعب دورا هاما في تشكيل موقف إيجابي للنخب الروسية بالنسبة للمبادرة الاقتصادية لبكين تحديدا حول الشراكة عبر المحيط الهادئ، الذي يعرض من معظم المراقبين كبديل أساسي لـRCEP. ووفقا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، "الشراكة عبر المحيط الهادئ هي محاولة أخرى من جانب الولايات المتحدة لبناء بنية للتعاون الاقتصادي الإقليمي الذي هو مفيد للولايات المتحدة نفسها".
ويستند موقف موسكو الرسمي على أساس أن أي هيكل اقتصادي إقليمي سيكون معابا من دون مشاركة روسيا والصين. في هذا الصدد، الدافع وراء مصلحة روسيا في تعزيز المبادرات الصينية هو رغبة موسكو في مواءمة النظام المالي والتجاري العالمي والهيكل وتعزيز دور البلدان غير الغربية.