عن فشل الديمقراطية الليبرالية.. ونموذج الحكم الجديد

15.12.2016

ديموقراطية الغرب في عهدة ميركل
نظلم الولايات المتحدة حين نتهمها بالمسؤولية عن نزعة التخلي عن بعض أو كثير من المبادئ والممارسات الديموقراطية في عالم الغرب. تؤكد شواهد عديدة أن أوروبا سبقتها إلى امتلاك هذه النزعة. رأينا في السنوات القليلة الماضية كيف أن حركات قومية وعرقية متطرفة نشأت ثم نمت بسرعة رهيبة، حتى صارت تهدد بالوصول إلى الحكم باستخدام أدوات الديموقراطية ذاتها التي تنوي الانقلاب عليها. ثم رأينا أكثر من حكومة في شرق أوروبا تمردت فخرجت عن التزاماتها الديموقراطية وراحت تمارس أساليب في الحكم مشتقة من تاريخ طويل من الخضوع للاستبداد في ظل إمبراطوريات متعاقبة، العثمانية والهابسبرغ والنازية والسوفياتية.

ديموقراطية غير ليبرالية
ابتهج بعض زعماء أوروبا الغربية حين خرجت من ثنايا الثورات الملونة التي اجتاحت دول شرق أوروبا في نهاية عهد الإمبراطورية السوفياتية قيادات تقود الانتقال إلى الديموقراطية الغربية لتتوحد أوروبا بأسرها، أو معظمها، تحت لواء الديموقراطية كما هي مطبقة في دولهم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

واقع الأمر كما يتبدى لنا الآن هو أن ما حدث في دول أوروبا الشرقية طوال السنوات التي تلت نشوب ثورات الزهور والألوان لم يكن الانتقال إلى الديموقراطية الغربية وإنما الانتقال إلى ما يمكنني أن أطلق عليه الديموقراطية غير الليبرالية، ديموقراطية ولكن بصفات وأدوات وممارسات لا ليبرالية. بمعنى آخر، نرى ما يجري في عديد من دول أوروبا كما لو أن أوروبا صارت الوحي الذي هبط على دونالد ترامب وأنعش مريديه والمؤمنين به، أو نرى ما يجري فيها كما لو أنها اكتسبت بظاهرة ترامب طاقة رهيبة تستطيع بفضلها تغيير شكل وجوهر القارة الأوروبية لسنوات قادمة.

في أميركا كما في أوروبا وربما كما في دول أخرى في الأنحاء كلها، وقعت على مدى العقود الأخيرة ثلاثة تطورات أثرت في اعتقادي تأثيرا عميقا في شعوبها. هناك التطور الذي بدأ متدرجا حتى صار حقيقة واقعة ومصدرا مؤكدا من مصادر التوتر الداخلي في دول الغرب كلها. إنه خيبة أمل الجماهير العريضة وبخاصة أفراد الطبقة الوسطى في اقتصاد السوق. كانت الصدمة أكبر في دول شرق أوروبا، كما كانت في مصر الثمانينيات والتسعينيات. ففي تلك الدول ارتفعت التوقعات بعد تنحية الاشتراكية وسياسات تدخل الدولة إلى حدود قصوى، ولكن لم تكن النتائج في جميع الحالات في مستوى التوقعات. أضف أن هذا التطور ارتبط بالصعوبات التي صاحبت صعود وانكسار عملية الانتقال إلى الديموقراطية. هكذا ارتبطت في الأذهان مسألتا صعوبات الانتقال وسوء أداء حكام في أحسن الأحوال عاجزين وفي أسوئها فاسدين.

أكاد أجزم بأنه في شرق أوروبا بل في دول بعينها في غرب أوروبا بل وفي الولايات المتحدة نفسها، انخفضت إلى أدنى الدرجات الثقة بين الشعوب من ناحية والنخب السياسية الحاكمة من ناحية أخرى. أما التطور الثالث، وهو أكثر انطباقا على الحالة السياسية في دول شرق أوروبا والعالم النامي وبخاصة في دول الشرق الأوسط، فهو الضعف المتوارث للمجتمع المدني في حالات بعينها وفي حالات أخرى انكساره تحت ضربات موجعة وجهتها سلطة رافضة للديموقراطية الليبرالية.

الثورة الثقافية والعولمة
كان النصف الثاني من القرن العشرين المرحلة التي تعرضت فيها الديموقراطية الغربية لتحديات كبرى. ففي الستينيات نشبت الثورة الثقافية في فرنسا وتمددت في دول أوروبية أخرى ووصلت شرارات منها إلى دول في العالم العربي وفي آسيا. خلَّف الاحتكاك بين الديموقراطية وشعارات الثورة الثقافية آثارا واضحة، ليس أقلها شأنا المكانة الجديدة التي حظي بها الشباب والنساء في المجتمع، كذلك برزت وبقوة مبادئ تعامل جديدة مع الأقليات ومع الحقوق والحريات عامة. هكذا انصهرت في الفكر الديموقراطي والممارسات الديموقراطية أفكار جديدة حتى توحّدت جميعها في منظومة واحدة.

لا شك بأن الديموقراطية بمضمونها الجديد بعد الثورة الثقافية هددت كثيرا سيطرة وربما احتكار نخبة صغيرة لمقاليد الحكم في النظم الديموقراطية، ما دفعها بعد ذلك لإصدار قوانين مقيدة للحقوق والحريات واتخاذ مواقف معادية للمجتمع المدني.

من ناحية أخرى وابتداءً من عقد السبعينيات وقعت ثورة العولمة. هذه الثورة التي لم يفلت من التأثر بها فرد أو شعب أو حكومة، ما زلنا نعيش ثمارها ونعاني طغيانها. تأثرت بها التجارة الدولية وفي ظلها خرجت الصين إلى العالم وانحسرت قوة الطبقة العاملة، بل اختفت نقابات وتراجعت الاشتراكية كمبادئ وحركات، وفي ظلها صعدت كذلك نخب سياسية واقتصادية جديدة وتغيرت مكانة الطبقة الوسطى. ثم لحقت بثورة اقتصاد السوق وحرية التجارة ثورة الإنترنت وقوة الإعلام المجتمعي، واكتشفنا جميعا خطورة هيمنة ظاهرة الإعلام المزيف والخير الكاذب والرفض المستتر ولكن المطلق لمفهوم «الحقيقة». كلها ظواهر ومؤشرات قيدت بشدة حرية العمل الديموقراطي ونزعت الإضافات الليبرالية عنه وتركت عديد المجتمعات الإنسانية رهينة حركات وأحزاب وزعامات سلطوية.

ميركل تواجه اليمين
لا خلاف كبيرا بين مراقبي الظاهرة الترامبية على أن أميركا تتغير لغير مصلحة الديموقراطية الليبرالية التي كانت تبشر بها. معنى هذا أنه لا قوة في الغرب الآن يمكنها أن ترفع شعار الدفاع عن الديموقراطية سوى ألمانيا، وبالتحديد المستشارة أنجيلا ميركل. لا مبالغة كبيرة في هذا التصور باعتبار أننا نتحدث عن غرب وقع فيه مؤخرا تطورات جميعها في غير صالح الاتحاد الأوروبي باعتباره الدرع البديلة لحماية قيم الغرب وتقاليده.

وقع أولاً «البريكسيت» وخرجت المملكة المتحدة من الاتحاد. وقع ثانيا أن انهمرت سيول اللاجئين من الشرق الأوسط وأفريقيا تجتاح أوروبا وتهديدات بسيول أخرى من أميركا اللاتينية متوقفة عند حدود المكسيك تهدد باكتساح الولايات المتحدة. وقع ثالثا مسلسل صعود الحركات الشعبوية بعضها بميول يمينية متشددة والبعض الآخر بميول يسارية، وكلها تجد القدوة في فوز ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية وتجد التشجيع والدعم من العملاق الروسي المنتصب على طول الحدود الشرقية لأوروبا طامعا أو شامتا. وقع رابعا شك عميق لدى معظم شعوب أوروبا الغربية في سلامة وقوة منطقة اليورو وقواعد الوحدة النقدية وبخاصة بعدما خلَّفت أزمة اليونان جروحا عميقة في العلاقات بين شعوب جنوب أوروبا وبخاصة شعب اليونان والشعب الألماني.

وقع أيضا أن عادت روسيا تحتل ساحات اهتمام وقلق عميقين في أوساط السياسة والدفاع في كافة أنحاء الغرب وطارحة نموذج حكم مستقر لا يلتزم المبادئ الغربية للديموقراطية.

شعوب أوروبا ليست واثقة تماما من صلابة «الغرب» الجديد في الدفاع عن سلامة أوروبا وأمنها وتقاليدها. الأمل الوحيد منعقد الآن على فوز حلف السيدة ميركل في الانتخابات القادمة بعد شهور قليلة، ولكن حتى هذا الأمل يزداد ضعفا وابتعادا في ظل أوضاع غير عادية وانحسار قوي في الالتزام بمبادئ الديموقراطية وصعود القوى القومية الألمانية وارتباك عام في العلاقات بين الدول.

نشرت للمرة الأولى في "السفير"