التجربة الروسية مع "النيوليبرالية"
في نهاية العام 1991، شكل الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين حكومة برئاسته، تولى فيها الجانب الاقتصادي يغور غايدار وعدد آخر ممن عُرفوا بتوجهاتهم الاقتصادية الليبرالية الراديكالية. وكانت علاقات قوية قد نُسجت بين هؤلاء الاقتصاديين الروس وصندوق النقد والبنك الدوليين وبعض الاقتصاديين الغربيين في إطار ما يسمّى بــ «إجماع واشنطن»، الذي يضمّ أنصار الليبرالية الجديدة.
واختارت هذه الحكومة، التي يُطلق عليها أحياناً حكومة «يلتسين ـــ غايدار»، بعد التفاهم مع «إجماع واشنطن»، طريقة العلاج بالصدمة لتسريع الانتقال إلى اقتصاد السوق. وتضمن العلاج بالصدمة في الأساس ما يُسمى بــ «روشتة صندوق النقد الدولي»، أي خصخصة أملاك الدولة ورفع الدعم وتحرير الأسعار والأجور والتجارة وإعادة النظر في الضمانات الاجتماعية للسكان، بهدف التغلب على العجز في الميزانية وإفساح المجال أمام رأس المال الخاص للعمل بحرية من دون آليات لضبط السوق.
في مطلع 1992، بدأت إصلاحات الصدمة هذه بتحرير أسعار نحو 90 في المئة من أسعار التجزئة والجملة، وإعادة النظر في البرامج الاجتماعية الحكومية وتحرير التجارة الخارجية والداخلية. وخلال العام المذكور وحده ارتفعت أسعار السلع والخدمات بمقدار 26 مرة تقريباً، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي بـ14.5 في المئة والاستثمارات بـ40 في المئة، وتراجع الإنتاج الصناعي بـ18 في المئة وانهارت العملة الوطنية تقريباً. وأدى انخفاض الإنتاج وارتفاع معدلات التضخم إلى أزمة كبيرة في عملية الإنتاج. فالتضخم أسفر عن تخفيض القوة الشرائية للموارد السائلة لدى الشركات وبدأت أزمة مدفوعات. واضطرّت الشركات في روسيا للتعامل بالمقايضة للتغلب على هذه المشكلة. بجانب ذلك تدهور المستوى المعيشي للغالبية العظمى من السكان وضاعت مدّخراتهم المُودَعة في بنك التوفير الحكومي وانخفضت قيمتها بشكل كبير.
إن هذه الصدمة الاقتصادية كان لها انعكاسات سياسية حادة، تجلّت في تصاعد الخلاف بين يلتسين والبرلمان الذي كان يرى ضرورة إجراء الإصلاحات بشكل تدريجي. كما اعترض البرلمان على الخصخصة التي شرع فيها فريق يلتسين من أنصار الليبرالية الجديدة، التي كانت، برأي البرلمان، ستؤدي إلى نهب ثروات وممتلكات الدولة من قبل فئة قليلة من الأفراد، «الأوليغاركيا»، المرتبطين بعالم الجريمة والمافيا. وهذا ما حدث بالفعل وبات جلياً في السنوات التالية. غير أن أنصار السوق «النيوليبرالية» باركوا تصفية ملكية الدولة على وجه السرعة. فقد كان المبدأ السائد لدى يلتسين وفريقه هو تسريع بناء «الرأسمالية» بأي ثمن، وترك آليات السوق تعمل بحرية ومن دون ضوابط، لأنها قادرة، برأيهم، على حل جميع المشاكل.
بجانب الطابع السياسي والاقتصادي، اكتست الأزمة في عهد يلتسين بطابع اجتماعي حاد، ولذلك ظلت إصلاحات «يلتسين ـ غايدار» الراديكالية حتى يومنا الحاضر لدى غالبية الشعب الروسي غير مقبولة. وبرغم أن هذه الغالبية تضرّرت من هذه الإصلاحات، إلا أن يلتسين الذي كان يُحارب من أجل الحفاظ على نظامه الوليد، جذب إلى جانبه شرائح اجتماعية معينة تمثلت في المستفيدين الجدد من إصلاحاته، بالإضافة إلى قسم مُعتبر من «النومنكولاتورا» السوفياتية. فهذه الإصلاحات فتحت أمام هؤلاء أبواب الثراء الفاحش والسريع، ومن ثم كانت لهم مصلحة في تقوية سلطة الرئيس. فالاحتجاجات الشعبية التي استند إليها البرلمان الروسي آنذاك في أزمته مع الرئاسة أفزعت الفئات الداعمة ليلتسين من المثقفين والبيروقراطية والمُلاك الجدد، وعلى رأسهم «الأوليغاركيا». ولعبت هنا الخصخصة دورها في حشد الداعمين ليلتسين في مواجهة البرلمان، ليتمكن في العام 1993 من قصف مبنى البرلمان وإقرار دستور جديد يمنحه صلاحيات قصوى، وصُولاً إلى تزوير الانتخابات الرئاسية في 1996 لصالحه. ولكن هذا لم يُخرج نظام يلتسين من أزمته التي استمرت في التصاعد، ليقع في أزمة مالية واقتصادية عنيفة في العام 1998، ومن ثم يُعلن إفلاس روسيا.
مع مطلع العام 1999، كانت الإصلاحات الاقتصادية ليلتسين قد أدت إلى انخفاض الإنتاج الصناعي بمرتين تقريباً، والإنتاج الزراعي بالثلث، وتراجعت استثمارات الدولة بـ60 في المئة، وتراجع الناتج المحلي الإجمالي إلى 59 في المئة من مستوى العام 1990. كما تقلص الاستهلاك السنوي للفرد في المتوسط من السلع الغذائية الأساسية مقارنة بالعام 1989 على نحو كبير. وبلغ التفاوت الاجتماعي في روسيا حداً لا مثيل له تقريباً، فوفقاً لبعض البيانات احتل قمة هرم الدخل في روسيا في التسعينيات من القرن العشرين نحو 2 في المئة فقط من السكان، بينما كان 58 في المئة من السكان عند خط الفقر وفوقه بقليل. في الوقت نفسه، كانت نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر لا تقلّ عن 25 في المئة من السكان. وفي تلك الفترة أشارت بيانات أخرى إلى أن نسبة من كانوا تحت خط الفقر في نهاية عهد يلتسين بلغت أكثر من ثلث سكان البلاد. أما الفجوة بين الأغنياء والفقراء، فكانت أكثر من خمسين مرة في عموم روسيا، وأكثر من تسعين مرة في العاصمة موسكو وحدها. ولم يتمكّن يلتسين على مدار فترة حُكمه التخلّص من العجز في ميزانية الدولة.
تُعَدّ تجربة يلتسين في تسعينيات القرن الماضي من الدروس السلبية لإجراء الإصلاحات في ظل غياب آليات ضبط الأسواق وتوفير «وسادة أمان اجتماعية» ومحاربة الفساد. الأمر الذي جعل إصلاحات الصدمة بمثابة صدمة حقيقة من تلك الإصلاحات في نظر المجتمع الروسي. ولذلك، نعتقد بضرورة اعتبار الدروس من هذه التجربة، التي أدّت إلى انهيار اقتصادي غير مسبوق ويُفوق في حجمه، بحسب اقتصاديين روس، ما أصاب العالم نتيجة «الكساد العظيم» نهاية عشرينيات ومطلع ثلاثينيات القرن العشرين. أما ما حدث مع الاقتصاد الروسي بعد نهاية عهد يلتسين، فهذه قصة أخرى، وإن كان الحاضر الروسي ما زال مرتبطاً بخيوط الماضي بقوة، ولكن في ظل ظروف داخلية وعالمية مغايرة.
"السفير"