مسيحيو سيناء: تهجيرٌ داخل الوطن!
مأساة السيناويين تتجدد. هذه المرة تصيب المكوّن الأضعف، وهم المسيحيون الذين يعيشون في الجزء الشمالي من شبه الجزيرة المصرية، وأرغمتهم تهديدات «داعشية»، نشرت أخيراً، وترافقت مع تصاعد وتيرة الاعتداءات والتصفيات الجسدية بحقهم إلى مستويات غير مسبوقة، فنزح المئات منهم إلى مدينة الإسماعيلية الأكثر أمناً، ليصبحوا بذلك مهجرين داخل وطنهم.
ي دير طور سيناء، صورة «عهد» منسوب إلى النبي محمّد، ويعرف بـ»العهدة النبوية». يقول نعوم بك شقير، في كتابه الشهير «تاريخ سيناء»، إنه «في تقاليد رهبان هذا الدير، فإن النبي محمد كتب لهم هذا العهد في السنة الثانية للهجرة أماناً لهم، وللنصارى كافة، على أرواحهم وأموالهم وبيعهم»، وأنّ «السلطان سليم العثماني، عند فتحه مصر سنة 1517، أخذه منهم وحمله إلى الآستانة، وترك لهم صورة مع ترجمتها بالتركية».
بصرف النظر عن الجدل التاريخي بشأن تلك الوثيقة، التي يُقال إنها كُتبت بخط الإمام علي بن أبي طالب، والتي تتفاوت فيها الآراء، بين متبنٍّ لرواية الرهبان، وبين مشككٍ بها، وفق فرضية اختلاقها «للاستعانة بها في دفع ظلم الحكام والغوغاء»، فإن التاريخ السيناوي القديم والحديث يشهد على أنّ مسيحيي شبه الجزيرة المصرية عرفوا استقراراً في أوضاعهم، منذ الفتح الإسلامي لمصر، في منتصف القرن السابع الميلادي، في ما عدا بعض المحطات التاريخية، التي لم تكن مآسيهم الإنسانية خلالها منعزلة عن مجمل ما حل بالسيناويين، بشكل عام.
لكن الأمر تبدّل اليوم، فمسيحيو سيناء، يواجهون حالياً، واحدة من أكثر المآسي ارتباطاً بانتمائهم الديني، والتي اتخذت منحى خطيراً خلال الأيام الماضية، بعد سلسلة جرائم ارتكبتها جماعة «ولاية سيناء»، التي سبق أن أعلنت البيعة لتنظيم «داعش»، في الثالث عشر من تشرين الثاني عام 2014، وتهديدات مباشرة، تسببت بموجة نزوح، غير مسبوقة، لعشرات الأسر المسيحية المتبقية، في شمال سيناء، ولا سيما العريش، ما ينذر بإفراغ تام لتلك المدينة المصرية من أحد مكوّناتها.
هكذا يراد لمصر أن تستعيد أحداثاً شبيهة لما جرى في الموصل والرقة، وغيرهما من المدن التي خضعت لسيطرة «داعش»، من استهداف ممنهج للمسيحيين، وغيرهم من الأقليات، في جزء حساس من مصر، التي طالما ترددت عبارة «حالنا أفضل من سوريا والعراق»، على لسان مسؤوليها، وفي مقدمهم الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي يخوض حرباً مفتوحة ضد الجماعات التكفيرية في شبه الجزيرة المصرية، منذ قرابة أربعة أعوام، بعد اشتعال الجبهة السيناوية، بعشرات العمليات الإرهابية، منذ سقوط نظام «الإخوان المسلمين» في الثالث من تموز عام 2013.
لكن مأساة مسيحيي سيناء لم تكن وليدة تلك الأحداث المفصلية التي رسمت واقع الحياة السياسية في مصر، فاستهدافهم، كهنة وعلمانيين، بدأ عملياً، بصورة متقطّعة، منذ الأيام الأولى لـ»ثورة 25 يناير» عام 2011، بعدما شهد الشطر الشمالي من شبه الجزيرة المصرية انفلاتاً أمنياً غير مسبوق، نتيجة لأسباب كثيرة، أبرزها المقاربة الأمنية الصارمة، التي انتهجتها الحكومات المصرية المتعاقبة ــ والمستمرة حتى الآن ــ والتي كانت من نتائجها تحوّل مئات الشبان، من المجتمع السيناوي، نحو التشدد الديني ــ بمن فيهم مهرّبو المخدّرات والكحول والبشر، الذين باتوا يعدّون من رموز «الجهاد» ــ فضلاً عن ضرب منظومة العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع القبلي، الذي ينظر إليه البعض باعتباره ركيزة للاستقرار المجتمعي بين المكوّنات السنياوية كافة.
أول اعتداء ضد الأقباط في شمال سيناء بدأ في التاسع والعشرين من كانون الثاني عام 2011، حين تعرّضت كنيسة مار جرجس والعائلة المقدّسة، وهي كنيسة مرخّصة افتتحت في رفح عام 1996، لسلسلة هجمات وعمليات نهب، على دفعات، نفذتها مجموعات مسلّحة، تراوح عدد أفرادها، بين اثنين ومئتين، وفقاً لما رصده تقرير لـ»المبادرة المصرية للحقوق المدنية»، صادر في عام 2012. ويشير هذا التقرير إلى أن الأجهزة الأمنية تقاعست، حينها، عن القيام بدورها، حتى أنها لم تلق القبض على أي متهم في هذه الأحداث، فيما لم تصرف أي تعويضات من قبل الحكومة المصرية على ما لحق بالكنيسة.
بعد الموجة الأولى من الاعتداءات هذه، لم يشهد شمال سيناء أي أحداث دراماتيكية ضد المسيحيين، في ما عدا بعض المضايقات ذات الطابع الاجتماعي لشابات وسيدات وتلامذة مدارس.
ولكن الأمر بلغ مستوى خطيراً منذ عام 2012، خلال فترة حكم «الإخوان المسلمين». فعلاوة على التطوّرات المتسارعة التي راحت تشهدها الساحة السيناوية، مع تنامي نشاط الجماعات المتشددة، وأبرزها تنظيم «أنصار بيت المقدس»، وما رافق ذلك من عمليات إرهابية ضد قوات الجيش والشرطة، واعتداءات على المتصوّفة.
وسجّل شهر أيلول من ذلك العام واقعة قيام ملثمين بتوزيع قصاصات ورقية، على ثلاثة متاجر يملكها مسيحيون في مدينة رفح، تضمنت العبارة الآتية: «أيها النصارى، ارحلوا من هنا، أمامكم 48 ساعة. قد أعذر من أنذر، ولا تلومنّ إلا أنفسكم».
بدا التهديد «شغل هواة»، كما صرّح كثيرون من المسؤولين السياسيين والأمنيين في ذلك الوقت، مدللين بذلك أن هذه البيانات كتبت على أوراق من كرّاسات بخط اليد، وبأخطاء إملائية، فيما راحت التطمينات للمسيحيين في سيناء تنهال من مؤسسات الحكم، بما في ذلك رئاسة الجمهورية، وخصوصاً أن ذلك ترافق مع سلسلة أحداث أكثر خطورة استهدفت الأقباط في مناطق مثل دهشور والعمرانية، وأعقبه هجوم مسلّح نفذه ملثمان، في رفح نفسها، حين أطلقا، يوم الخامس والعشرين من أيلول، النار على محل تجاري يملكه مسيحي.
تلك الحوادث أطلقت أولى موجات النزوح من سيناء، فقد غادرت رفح حينها تسع أسر مسيحية من أصل 15، فيما فضّل أفراد الأسر الأخرى البقاء في بيوتهم، التي لازموها لأيام عدّة، بناء على «نصائح» من جهات أمنية!
تصاعدت وتيرة العنف في سيناء، كما هو معروف، بشكل غير مسبوق، منذ عزل الرئيس «الإخواني» محمد مرسي عن الحكم. وكان للأقباط حصتهم في ما جرى، حيث تعرّضوا لعمليات قتل متفرقة، أحصاها مركز «وطن بلاد حدود» بـ 13 حالة، أولاها حادثة قتل مينا عبود شاروبين (7 تموز 2013)، وآخرها قتل سعد حنا وابنه مدحت (22 شباط 2017).
وإلى جانب عمليات القتل، تعرّض عدد من مسيحيي سيناء للخطف، كما جرى مع الطبيب وديع رمسيس، الذي اختطف على أيدي «متشددين» في الرابع عشر من تموز عام 2014، وأطلق سراحه بعد 92 يوماً على أثر دفع فدية، وكذلك، مع سامح عوض الله (تاجر)، ومينا متري (صاحب محل أدوات صحية)، وجمال شنودة (تاجر)، وشنودة رياض (صاحب مزرعة)، الذي أطلق سراحه، محملاً برسالة تهديد لأقباط العريش.
وعلاوة على ذلك، تعرّض عدد من الأقباط في سيناء لاعتداءات طاولت منازلهم ومصالحهم، فيما لا يكاد يمر يوم إلا بالإبلاغ عن تهديدات عبر رسائل نصّية، ووسائل أخرى، وقد تزايدت وتيرتها منذ عام 2015، حيث دأب تنظيم «ولاية سيناء»، سواء مباشرة أو عبر تغريدات تحريضية (بطلها الأساسي المدعو أبو أياد المصري)، تماشياً مع توجهات تنظيم أبي بكر البغدادي بضرب الأقليات، أينما وجدوا على أراضي «دولة الخلافة» المزعومة.
رسائل التهديد والتحريض هذه، لا شك أنها تجد أرضاً خصبة، ليس في سيناء فحسب، وإنما في كل محافظات مصر، بتأثير من شيوخ السلفية، الذين أثار بعضهم قبل فترة جدلاً حاداً برفضهم، على سبيل المثال، اعتبار الجندي الذي يسقط دفاعاً عن سيناء شهيداً!
ولا شك في أن ما يجري حالياً في سيناء من عمليات تهجير للمسيحيين، يتجاوز البعد الطائفي التقليدي، كما أنه يتخطى الأيديولوجيا التكفيرية التي يحملها تنظيم «داعش» وإخوته، ولا سيما أن موجة النزوح غير المسبوقة تلك تترافق مع سلسلة تطوّرات إقليمية، باتت سيناء في عين عاصفتها، وأبرزها أجندات مشبوهة، مصدرها إسرائيل، باتت تلقى صدىً مشجعاً في الولايات المتحدة، ولا سيما بعد وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بداية بالحديث عن «الوطن البديل» للفلسطينيين في سيناء، ودخول إسرائيل مباشرة على خط العمليات العسكرية في شبه الجزيرة المصرية، في ظل تردد أنباء عن قيام طائرات إسرائيلية من دون طيار بقصف مواقع لجماعة «ولاية سيناء».
وإذا كانت تلك الأجندات المشبوهة تُقابل بنفي علني من قبل السلطات المصرية، بما في ذلك رئاسة الجمهورية، فمن المؤكد أن تكرار تجارب العراق وسوريا وليبيا في مصر، الدولة العربية التي حافظت على تماسكها برغم العواصف الإقليمية المحيطة بها، يندرج في إطار تفكيكي، إن نجح، فالمشروع جاهز، وإن أخفق، فلا شك أنه سيكثف الضغوط الأمنية، وربما السياسية، على النظام المصري، وهي ضغوط لا يمكن بأي شكل من الأشكال مواجهتها، من خلال المقاربة الحالية، في مكافحة الإرهاب، والتي من شأنها، إذا استمرت، أن تجعل مسيحيي سيناء ضحايا تلك المخططات القذرة.
نحو 600 عائلة قبطية في شمال سيناء
من الصعب حصر عدد الأقباط الذين يعيشون في شبه جزيرة سيناء، التي تشير الإحصاءات المتوافرة بخصوصها إلى أنّ عدد سكانها يبلغ حوالى 555 ألف نسمة، منهم 395 ألف نسمة في شمال سيناء و159 ألف نسمة في جنوبها.
وبخصوص محافظة شمال سيناء، حيث تقع مدينة العريش، فإنّ الإحصاءات الكنسية تشير إلى وجود نحو 600 عائلة قبطية.
وكان بيان أصدرته يوم الجمعة الماضي، الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، قد نقل عن البابا تواضروس أنّ الأحداث «تعمد إلى ضرب وحدتنا الوطنية، وتمزيق اصطفافنا جبهة واحدة في مواجهة الإرهاب... استغلالاً لحالة التوتر المتصاعد والصراع المستعر في كافة أرجاء المنطقة العربية»، فيما أعلن بيان رئاسي أنّ الرئيس عبد الفتاح السيسي «وجّه (في اجتماع عقده أول من أمس) بأهمية التصدي لكل محاولات زعزعة الأمن والاستقرار في مصر».
ورصد مركز «وطن بلا حدود» الحقوقي 13 حالة تصفية ضد مسيحيي سيناء، منذ عزل الرئيس «الإخواني» محمد مرسي في الثالث من تموز عام 2013.
الأخبار اللبنانية