الولايات المتحدة وروسيا: اللعب على حافة الهاوية

21.10.2016

لطالما كانت العلاقة بين القطبين الدوليين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة علاقة تنافس وتوتر وصراع، لا سيّما بعد الحرب العالمية الثانية. كان التوسع خارج حدود الامبراطوريتين عنصراً مشتركاً من أجل الحفاظ على المصالح الاستراتيجية لكل منهما. وكان الشرق الأوسط من الساحات التي ما زالت تشهد منازلات طويلة بين الجانبين.

لم يستطع الاتحاد السوفياتي، وروسيا لاحقاً، الدفاع عن مصالحه، أو دعم حلفائه بطريقة مجدية، ولا كان هذا الدعم خالياً من التردد. في المقابل، استطاعت أميركا بمساعدة بريطانيا أن تخلق كياناً من العدم، وتطرد شعباً من أرضه، وتجعل هذه الأرض قاعدة متقدمة لها في الشرق الاوسط. «ولأن الطموح العالمي لأميركا تمثل ببقائها صاحبة اليد الطولى في مواجهة الروس؛ فقد مُنحت إسرائيل مكانة متميزة عند الأميركيين، لأنها بنظر واشنطن لم تواجه السوريين (والعرب) فحسب، بل الروس أيضاً». هذا ما يقول باتريك سيل في كتابه عن الصراع على الشرق الأوسط.

ما زالت روسيا إلى الأمس القريب تتلمّس طريقها لتدعيم مشروعها السياسي في منطقتنا، مسكونة بهيمنة الأميركي على المشهد العام. وتتضح أهمية الشرق الأوسط الاستراتيجية في السياسة الدولية وحيويته، من خلال شواهد عديدة. ولعل ما تشهده المنطقة اليوم من جنون ودمار وسفك دماء، يدعم هذه الحقيقة. وكما أنّ أحد الأسباب المعتبرة لبداية انهيار الاتحاد السوفياتي، كان الهزيمة الواضحة في أفغانستان، الواقعة على أطراف الشرق الأوسط، فإنّ العودة القوية لموسكو، وإن شابها بعض الخجل أو الحذر، جاء من قلب الشرق الأوسط، من البوابة السورية تحديداً.

«تجد روسيا نفسها بعد الشيوعية محصورة داخل حدود لا تعكس تاريخها، وترى أن عليها أن تكرّس جلّ طاقاتها لإعادة تعريف هويتها. فهل ينبغي عليها العودة إلى إيقاعها التاريخي، واستعادة امبراطوريتها المفقودة؟ وبأيّ مبادئ وغايات ستتفاعل مع التغيرات الجذرية حول حدودها، وفي الشرق الأوسط؟ يحيل كثير من المحللين الروس مسألة الرغبة التوسعية الروسية إلى شعورهم باللاأمن، فيما يرى عدد منهم في الاندفاع الروسي الخارجي «مهمة خلاص». وروسيا إن زحفت في قواتها، تجلّى عليها شعور باللاتوقف، وإن تكبّلت في سيرها، آثرت الانسحاب إلى حالة من الامتعاض المتجهّم، فهي دولة سيشهد عليها التاريخ أنها قضية تبحث عن الفرصة». هذا رأي هنري كيسينجر في كتابه عن الديبلوماسية من القرن السابع عشر حتى بداية الحرب الباردة.

أما في علاقة الروس مع العرب، فلم يكن التحالف معهم مبنياً على قواعد متينة وثابتة. والحديث يطول في هذه النقطة، لكن شاهداً صغيراً قد يفي بالغرض. ففي ذروة التحضير لـ «حرب أكتوبر» 1973، نرى أنّ الرئيس السوري حافظ الأسد لم يكن راغباً بتوقيع معاهدة مع القيادة السوفياتية التي أصرّت عليه غير مرة. ومثّل طرد السادات الخبراء السوفيات، ثم طلب السلاح منهم بعد وقت قصير، ذروة التذبذب في الخيارات، إضافة إلى أنه بعد أقل من عشر ساعات على انطلاقة الحرب، كان السادات يرسل سراً، وعن طريق قناة خلفية، رسالة إلى كيسينجر يشرح فيها شروط السلام، وبقي يومياً على اتصال به طيلة أيام الحرب.

غالباً ما كان الروسي يمارس حالة دفاع، لكنّ الرئيس بوتين حسم خياره مؤخراً وتبنّى نظرية الهجوم، عندما شعرت روسيا مؤخراً بقرب انهيار الدولة السورية، نافذتها الوحيدة إلى المياه الدافئة، بعد خداعها في ليبيا، ومحاصرة دورها في مصر. وبعد منازلات عديدة في مجلس الأمن، تدخلت في أيلول من العام الماضي كطرف عسكري مباشر، وحققت إنجازات وازنة ومؤثرة مع شركائها في الجبهة السورية. وهي بدّلت موازين القوى، كما صرّح بذلك الرئيس السوري منذ أيام.

قد تكون القاعدة في العلاقة بين الروس والأميركيين هي انعدام الثقة. وما الانخراط الروسي السريع والكبير بعد إخفاق الهدنة الثانية في الحرب السورية إلا دليل على انعدام الثقة بالأميركي، لا سيما بعد تجربة الهدنة الأولى التي كادت تلتهم كل ما أُنجِز، والتي استغلتها المعارضة المسلحة منذ الساعات الأولى، عبر ترميم ما خسرته، و «استيراد» شحنات الأسلحة بآلاف الأطنان عن طريق دول أوروبا الشرقية.

أفلت لافروف وبوتين مؤقتاً، وفي اللحظات الأخيرة، من كيري وأوباما، ولم يستسلما للديبلوماسية الأميركية كما فعل العرب، عندما غفوا على ساعد الداهية هنري كيسينجر، الذي أغواهم بوعوده المتكررة باستعادة أرضهم المحتلة منذ العام 1967.. وما زالوا ينتظرون. وهو الذي احترف اللعب على التناقضات، عبر إجادته استراتيجية «الغموض البناء».

راكم الروس هواجس تاريخية شتى في علاقتهم مع الأميركيين، وسكنهم الخوف من القطب الآخر الذي ما فتئ يهدّدهم بالتدخل العسكري المباشر، كما يحصل اليوم. وهو دائماً ما يستحضر التجربة الأفغانية المريرة، والحرب الصريحة على السوفيات بأموال ورجالات عربية وإسلامية، واختراع ما سُمِّي بـ «المجاهدين العرب». وما زال الأميركي يغرف من خيرات تجربتها، ويستخدمها كفزاعة كلما انحشر وحلفاءه في الحرب السورية.

لذلك كان التعبير الروسي غاضباً من الابتزاز الأميركي حيال ما يحصل في هذه الحرب المدمرة، وبعد الغارات على موقع الجيش السوري في دير الزور، جازماً على لسان أكثر من مسؤول بأنّ أي ضربة ستوجّه إلى دمشق أو الجيش السوري، ستحدث تغييرات تزلزل الشرق الأوسط.

ولكي نبيّن عمق الخلاف وتجذّره بين القطبين الدوليين، لنرَ ما تقوله وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، والمرشحة الأوفر حظًا للدخول الى البيت الأبيض هيلاري كلينتون في مذكراتها «خيارات صعبة» أثناء ترويجها لمنهجية «إعادة الضبط» التي تبنّتها، عندما شغلت منصب وزيرة الخارجية في الولاية الأولى للرئيس أوباما، مسديةً نصيحة للرئيس في تحديد علاقته مع بوتين: «لا تظهر حريصاً جداً على العمل معه، لا تتملق بوتين بإيلائه اهتماماً. أوضح أن القوة والعزم يشكلان القوة الوحيدة التي يفهمها بوتين. يجب أن نوصل إليه رسالة مفادها أنّ لأفعاله عواقب، فيما نطمئن حلفاء الولايات المتحدة بأننا نناصرهم».

ربما بإمكان المتابع التنبؤ بما قد تكون عليه علاقات الدولتين إذا ما استطاعت كلينتون العودة إلى البيت الأبيض، وترتيبه، ليس كونها زوجة الرئيس، بل كرئيسة للولايات المتحدة الأميركية.

لا تزال الحرب في أوجها. ومخاض الحرب الديبلوماسية يوازي بأهميته مخاض الجبهات العسكرية، لأنّ الذي يبدع في التفاوض هو من يكسب الحرب، والأميركي متمرّس في فن المراوغة، وهو صاحب خبرة في هذا المجال، ويمتلك من الأوراق والمواقع ما يجعل خصومه في أحيان كثيرة في حالة دفاع منهكة. لكنّ التجارب أيضاً تشير إلى أنه في الحالات التي استخدم خصومه تقنية الهجوم، فإنّ النتائج كانت مذهلة.

طارق عبود – "السفير"