فقدان المناعة المكتسبة في روسيا

22.07.2016

في عشرين تموز الجاري، ذكرت صحيفة «نيزافيسيمايا غازيتا» الروسية أن أحدث تقارير برنامج الأمم المتحدة لمكافحة مرض فقدان المناعة المكتسبة (الإيدز) صنف روسيا كإحدى بؤر انتشار هذا الوباء الخطير على المستوى العالمي. واللافت هنا أنه في ظل التراجع النسبي للمرض، بحسب تقرير برنامج الأمم المتحدة لمكافحة الإيدز، فإن منطقتي أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى ينتشر فيهما الإيدز بمعدلات مرتفعة وسريعة. ويشير التقرير إلى أن نصيب روسيا من هذه الزيادة بلغ 80 في المئة في العام 2015، بينما كانت 15 في المئة من نصيب بيلاروسيا وكازاخستان ومولدافيا وطاجيكستان وأوكرانيا. ومن حيث معدلات الإصابة بالإيدز، فإن روسيا، بحسب التقرير أيضاً، تفوقت حتى على بعض البلدان الأفريقية مثل أوغندا وزيمبابوي.

ويُرجع خبراء الأمم المتحدة، ويتفق معهم خبراء روس، هذا التطور الخطير إلى سببين. الأول يتعلق بتوقف عمل البرنامج الدولي لمكافحة الإيدز بعدما اعتبر البنك الدولي خلال السنوات الأخيرة أن روسيا باتت دولة ذات مستوى دخل مرتفع، ومن ثم توقف الدعم الدولي لها في مكافحة المرض. وبالطبع، لم يتواكب ذلك مع توفير تمويل مناسب لمكافحة الإيدز وعلاج المصابين من ميزانية الدولة الروسية. فالنفقات العامة على البرامج الصحية في السنوات الأخيرة (بالأسعار الثابتة) تقرر تقليصها بـ35 في المئة على أقل تقدير. والتمويل الحكومي لعلاج المرض يسمح فقط بعلاج نحو 200 ألف شخص من العدد الإجمالي للمصابين. أما السبب الثاني لتحول روسيا إلى بؤرة لمرض فقدان المناعة المكتسبة، فيتمثل في أنها تتصدر، بحسب التقرير المذكور، قائمة الدول من حيث تعاطي السكان للمخدرات عبر الحقن. فنحو 1.5 مليون شخص في روسيا يتعاطون المخدرات بهذه الطريقة. ويقول مدير المركز الفدرالي الروسي لمكافحة الإيدز، فاديم بوكروفسكي، «إن أكثر من واحد في المئة من النساء الحوامل في 20 منطقة روسية مصابات بالإيدز»، مُعتبرا هذا المؤشر خطيراً. وتتصدر مقاطعات مثل سفيردلوفسك وايركوتسك وكيميروف، بجانب دائرة الحكم الذاتي خانتي ـ مانسيسك وإقليم «بيرم»، قائمة المناطق الروسية المُنتشر بها المرض بقوة. كما أن الوضع في العاصمة موسكو مُقلق أيضا، بحسب المركز الفدرالي الروسي لمكافحة الإيدز. ففي موسكو وضواحيها تتراوح نسبة الشباب في سن 16 ـ 26 سنة المصابين بالإيدز بين 3 ـ 5 في المئة. علماً أن أكثر من 80 في المئة من المصابين تتراوح أعمارهم بين 15 و30 سنة. وسوف يتوفى هؤلاء خلال سنوات عدة من دون ترك أبناء أو أحفاد. الأمر الذي يؤثر سلباً على الطاقة البشرية في روسيا، حيث إنه خلافا للبلدان الأفريقية التي ينتشر فيها الإيدز، فإن روسيا لا تزال تجد صعوبات في تعويض الفقدان الطبيعي للسكان من خلال زيادة معدلات المواليد بالقدر الكافي. في غالب الظن، تعرف السلطات في روسيا هذا الأمر جيداً، لكنها لا تُفضل «الصخب». ففي نهاية العام الماضي، أعلن رئيس الحكومة دميتري ميدفيديف أن عدد المصابين بالإيدز في روسيا يتزايد سنويا بنسبة 10 في المئة. وأكدت وزارة الصحة الروسية أنه في ظل المعدلات الحالية لانتشار المرض في البلاد، فإن عدد الحاملين للمرض والمصابين به قد يرتفع بنسبة 250 في المئة بحلول العام 2020.

من المعروف أن الإيدز ظهر في روسيا متأخراً بعض الشيء عن البلدان الأخرى. ففي مطلع تسعينيات القرن الماضي لم يزد عدد المصابين عن 30 ألف شخص. ولكن خلال الثلاثين سنة الأخيرة تضاعف هذا العدد تضاعفا ملحوظا. ويمثل العام 1996 الانعطاف الحقيقي في هذا الميدان، حيث شهد ارتفاع حالات الإصابة بالإيدز بثماني مرات. وفي الشهور العشرة الأولى من العام 2000، ارتفع عدد المصابين بمرتين مقارنة بما كان عليه الحال في 1999. وتشير البيانات الرسمية المتاحة إلى أن أكثر من مليون شخص حاليا مُسجلون رسميا كمصابين بالمرض في روسيا. ومنذ تسجيل الحالة الاولى بالإيدز في الاتحاد السوفياتي السابق في العام 1987، توفي من المرض 205 آلاف شخص. ولا يُستبعد أن يكون عدد حاملي المرض في روسيا حاليا أكثر من 1.5 مليون شخص، بحسب البيانات الرسمية. لكن المعطيات غير الرسمية تُقدر العدد بأكثر من ذلك، مشيرة إلى أكثر من خمسة ملايين مصاب وحامل للمرض.

كما أشرنا أعلاه، يرتبط ارتفاع معدلات الإصابة بمرض الإيدز في روسيا بزيادة عدد المتعاطين للمخدرات عبر الحقن. ففي الفترة 1987 ـ 1996، وقعت مُعظم حالات الإصابة بالإيدز من جراء الاتصال الجنسي، أما الآن فنحو 54 في المئة من الإصابات في روسيا تحدث في صفوف متعاطي المخدرات و43 في المئة بسبب الاتصال الجنسي. وهذا يعني ببساطة أن مكافحة الإيدز أصبحت مرتبطة، بدرجة كبيرة، بمكافحة المخدرات. وتُقدر المصادر الرسمية عدد المتعاطين للمخدرات في روسيا بأكثر من ثلاثة ملايين شخص، بينما تشير المصادر غير الحكومية إلى أن هذا العدد لا يقل عن 15 مليون نسمة. وتنتشر المخدرات في صفوف الشباب على نطاق واسع في عمر 13 ـ 25 سنة. وفي العام الماضي وحده، بحسب الدائرة الروسية لمكافحة المخدرات، أنفق نحو 7.5 ملايين شخص من متعاطي المخدرات في روسيا حوالي 67 مليون دولار يومياً على شراء المخدرات.

هذه الصورة غير المريحة لتطور انتشار الإيدز ومعه المخدرات في روسيا تمثل، من دون شك، تهديداً مستقبلياً لأي خُطط تنموية. كما أنها قد تمثل تهديداً، بدرجة أو بأخرى، للأمن القومي الروسي وطموحات الكرملين السياسية. ويُمكن إضافتها كذلك لتحديات مثل الارهاب ومحاولات حصار روسيا جيوسياسياً عبر «حلف شمال الأطلسي» والدرع الصاروخية الأميركية، التي بدأت في الانتشار بالقرب من الأراضي الروسية.

جريدة "السفير"