"التفكيكية الترامبية"، هندسة أميركية لإدارة الصراعات في"الشرق الأوسط".

19.02.2017

بعد شهر تقريباً على توليه سدّة الرئاسة الأميركية، انقلابٌ شبه تام على برنامجه الانتخابي في مجال السياسة الخارجية، فلا تقارب مع روسيا في حلّالأزمات الدولية بل على العكس تصعيدٌ سياسيّ وعسكريّ في مواجهتها بدءاً من مطالبتها بإعادة "القرم المحتلة" -على حد توصيف إدارته- من على منبر مجلس الأمن و تتابعاً مع توسيع الحلف الأطلسي شرقاً وصولاً إلى عرقلة جهودها في سورية، وفي ذات السياق سريعاًما عاد الرئيس الجديد إلى الالتزام بصينٍ موحدةٍ بعد أن بدأ سياساته الدولية باتصالٍ برئيسة تايوان في إعلان تحدّ للصين ..، و بخلاف تصريحاته الانتخابية أيضاٍ بدأ ترامب بتجديد الشراكة الإستراتيجية الأميركية السعودية في مواجهة ايران، وهو القائل عنها "بقرة حلوب متى جف حليبها سنذبحها"، طارحاً في برنامجه الانتخابيآنذاك "الأمن الخليجي مقابل المال" ومحاربة "الجماعات الوهابية"، وفي الأزمة السورية بات مبدأ التعاون الأميركي الروسي لمكافحة داعش باعتباره أولويةً خارج الصرف السياسيّ،وبديلٌ عنه تجديدٌ لمشاريع أميركية بمناطق آمنه وتدخلٍ بريٍّ في الرقة،وكان اللافت في سياسة ترامب في شهرها الأول إظهار الاهتمام الأميركيّ بدور مصر والأردن في بلورة معالم الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، وفي مقابل هذا التخلي الأميركيّ عن الوعود الانتخابية كان جلياً تمسك ترامب بمسألتين مترابطتين وهما وعوده تجاه "إسرائيل" والتزامه التام بأمنها القوميّ، والمسألة الثانية هي تمسكه بعدائيته ضد إيران،و في مقابل هذه الاستدارات الترامبية عن برنامجه الانتخابي جرت حلقاتٌ متصلةٌ من السلوك السياسيّ في الشهر الأول لسياسته تؤطر بمجملها حركته السياسية وتحدد منطقه السياسيّ القادم، الحلقة الأولى هي سلسلة اتصالاتٍ متلاحقة أجراها ترامب مع رئيس مصر وملك السعودية و لقاؤه مع ملك الأردن،توضح بمجملها طبيعة تحالفاته القادمة في الشرق الأوسط، فضلاً عن لقائه نتيناهو في واشنطن،الحلقة الثانية هي ولوجٌ متزامنٌ لركيزتيّ ترامب الجديدتين في الشرق الأوسط الأردن ومصر على خط تسويات أزمات المنطقة، الأردن على خط التسويات في الأزمة السورية مجسَداً في لقاءات استانة، ومصر على خط تسويات الأزمة الليبية وإبرامها اتفاق القاهرة بما يتخطى "مبادئ  اتفاق الصخيرات"، أما الحلقة الثالثة فهي التخلي الأميركيّ عن مبدأ حل الدولتين في القضية الفلسطينية، ورغبة ترامب الجامحة في نقل السفارة الأميركيةإلى القدس، في نعيّ واضحٍ ونهائيّ لخارطة الطريق ومسار أوسلو برمته، والحلقة الرابعة هي سعي ترامب لتشكيل حلفٍ عربيّ عسكريّ تقوده مصر في المنطقة، دون الإفصاح عن كامل أجندته في المنطقة.
و بإعادة تجميع وفرز المعطيات السابقة خصوصاً هدم الأسس التي تقوم عليها التسوية الفلسطينية الصهيونية و إشراكالأردن ومصر في تسويات المنطقة وفق "مصالحهم الأمنية"، ولامبالاة الولايات المتحدة بنتائج سياق الأستانة، والسير قدوماً في خطواتها الانفرادية، يتضح أنّ نهج ترامب السياسيّ هو مزيجُ من "الديكونستركشن السياسيّdeconstruction"، أيّ التفكيكية/التقويضية السياسية لكلّ المبادئ السابقة التي تقوم عليها التسويات في منطقة معينة بلا أفقٍ جديدٍلإعادة بنائها مجدداً، مع السماح لكل اللاعبين بما فيهم الحلفاء بـ"اللعب الحر"اللامتناهيوالمتناقض سياسياً في المنطقة وفق واقعيةٍ سياسيةٍ في الحساباتلإعادةإنتاجأسسٍ جديدةٍ وشكلٍّ جديدٍ لهذه التسويات ليست ثابتةً ونهائيةً في بنائها، فمثلاً اشتراك الأردن في سياق أستانة غيّر شكل التفاوض، و"اللعب الحرّ" لتركيا هدد أسس هذا اللقاء وبالتالي أستانة 2 كان صورةً باهتةً عن أستانة 1،وهذا جوهر النوايا الأميركية، ويجب تعميمه على ليبيا اليمن،بمعنىإنتاج مساراتٍلا منتظمةٍ لتسويات الأزمات، وعندما تأخذ أحد هذه المسارات بالانتظام يقوم الأميركيّ بطرح معطىً جديد يقوّض ما سبقه استناداً إلى مبدأ "اللعب الحّر"البرغماتي والواقعي، فطرح المناطق الأمنة في سورية أعاد الحسابات التركية مع روسيا، وربما معطى مشابه في الجنوب السوري يغير الحسابات الأردنية، و تفكيكية ترامب هذه أتت كاستجابة لحاجةٍ أميركيةٍ في الاستفادة من التفلت الإقليميّ الناتج عن الواقع الدولّي الجديد الذي أصبحت فيه القطبية الأميركية في نهاياتها أمراً واقعاً، وجب ضبطه أميركياً بصيغٍ متقدمة، عبر إيقاع هذه القوىفيرمالٍمتحركةٍ من التسويات والأزمات يستحيل معها الخروج إلّا بمساعدةٍ أميركيةٍ، وبذلك تفكيكية ترامب تتسق مع فوضوية جورج بوش في الهدم وتختلف معه في إعادة البناء فالتفكيكية هنا تأخذ طابع الفوضى اللامتناهية،وهي غائية في هدفها، فالفوضى اللامتناهية و تقويض كلّالأسس السابقة لكلّ مسارات التسوية للملفات الازموية في المنطقة، وما تحتمله من هندسة جيوسياسية جديدة للمنطقة برمتها، هي في خدمة هدفٍ واحدٍ واتجاهٍ واحد عنوانه "الأمن القوميّالإسرائيليّ"، في صيغتيه الأساسيتين تدمير أسس حل الدولتين نهائياً مع الاحتفاظ بـ"يهودية الدولة الإسرائيلية" كخطٍ عريضٍ للاستراتيجية الأميركية و الصيغة الثانية هي تقويض قدرات الردع والهجوم الإيرانية ولكامل محورها، هنا يصبح السؤال مشروعاً كيف يمكن ذلك في ظل المنهج التفكيكي لترامب أو بالأحرى لإدارته، يمكن الجواب في نظرية اللعب الحر للقوى الإقليمية في المنطقة الذي سيخلق الكثير من التناقض بين هذه القوى ويغوص كلّ طرف بالأزمة التي تعنيه،الأردن في الأزمة السورية ومصر في الليبية والسعودية في اليمنية، مع سعيٍّ أميركيّلصياغة شكلٍ من التحالف العسكريّ بين تلك القوى الثلاث وبإسناد"إسرائيلي" لمواجهة ما يسمى "النفوذ الإيراني" في المنطقة، تصبح مقدمةً لطرح نتينياهو المعروف بـ"السلام الإقليميّ"، وقلب مفاهيم القضية الفلسطينية ليكون هذا السلام مقدمةً للتسوية بين الفلسطينيين و"الإسرائيليين" وليس العكس وفق مباردة العرب في بيروت (2002)، وذلك من دون مواجهةٍ مباشرة مع روسيا التي ستتجنب المواجهة بدورها لأنّ الأميركيّ لن يتدخل لإسقاط"الحكومة" في سورية مباشرة وسيكتفي بـ"داعش" ذريعةً للتدخل في سورية مؤقتاً، وهنا نلاحظ أنّ إجراءات التهويد بلغت ذروتها في الأراضي المحتلة من ناحيتي القدس والمستوطنات، وبرضا أميركيّ، أيّ أنّ الإدارة الأميركية تعمل على خلق واقعٍ فوضويّ في الشرق الأوسط عاصفٍبأزماته وبذات الوقت تجهد على أن تكون "إسرائيل" في عين العاصفة ومستقرها، وبالتالي تفكيكية ترامب الفوضوية ستعمل على بلوغ حوائط الإعصار الأزموي (سورية و ليبيا تحديداً) ذروته ريثما يتم إعادة هدم المستقر (التقليدي) وهي ركائز القضية الفلسطينية وإعادة بنائها من جديد، في ظلّ غرق قوىً إقليميةً كالأردن ومصر في رمال التسويات المتحركة، بفعل السياسات الأميركية المرتقبة، بهذا تصبح هذه الدول حاضرةً وبقوةٍ لقبول المقترح القديم الجديد "جيوراايلاند" أو مشروعٍ مستنسخٍ عنه لمحو مفهوم القضية الفلسطينية عبر اقتطاع مساحات كبيرة من صحراء سيناء لصالح قطاع غزة وتعويضٍ مماثلٍ عنها لمصر من منطقة باران جنوب غرب النقب، تكون بمثابة وطنٍ بديلٍ للفلسطينيين أو دولةٍ فلسطينية،مرفقٍ بمغريات اقتصادية سعوديةٍ كان جسر الملك سلمان واتفاق جزر تيران والصنافير بداية هذا المشروع فعلياً،وهذا يفسر ود ترامب الشديد للأردن ومصر.
وطالما أنّ المشروع الصهيوني الجديد لم يتبلور بعد، من المتوقع أن تستمر التفكيكية/ التقويضية الأميركية في سياستها كوسيلةٍ لإدارة الصراعات في السياسة الخارجية الأميركية، حتى يتبلور هذا المشروع من رحم الأزمات المشتعلة والحاجة الإقليمية الماسة للأمن والاستقرار، حينها ستنتقل التفكيكية من الهدم اللامتناهي إلى البناء اللامتماثل في خدمة الشكّل الصهيوني الجديد.
سومر صالح- عضو المركز الدوليّ للدراسات الأمنية والجيوسياسية.

المركز الدولي للدراسات الأمنية والجيوسياسية