عقيدة روسيا الخارجية الجديدة
أقر فلاديمير بوتين في الأول من الشهر الجاري عقيدة جديدة لسياسة روسيا الخارجية لتحل محل عقيدة 2013، التي يرى الكرملين أن بعض بنودها قد تقادم. وتتشابه العقيدة الجديدة كثيرا مع القديمة، لكنها تأتي لتتواكب مع المتغيرات التي جرت في العالم خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة. فأحداث أوكرانيا والقرم والعقوبات الغربية وتراجع أسعار النفط العالمية وانخفاض العملة الوطنية الروسية (الروبل) وتراجع الاقتصاد الروسي ونموه السلبي والتدخل العسكري في سوريا، كل هذا خلق واقعا جديدا يتطلب على ما يبدو إجراء تغييرات في رؤية روسيا لسياستها الخارجية مجددا.
وبنظرة على بعض الاتجاهات الأساسية للعقيدة الجديدة، نرى أنها تتمحور حول ضمان الأمن القومي الروسي وسيادة روسيا ووحدة أراضيها وخلق الظروف الملائمة للنمو الاقتصادي المُستدام ورفع القدرة التنافسية للاقتصاد الروسي على المستوى العالمي، بجانب التحديث التكنولوجي ورفع مستوى المعيشة للسكان وتوطيد مواقع روسيا كمركز مؤثر في العالم المعاصر.
ويرى مراقبون روس أن مثل هذه الاتجاهات مُعتادة وتقليدية، ولم تخلُ منها عقيدة للسياسة الخارجية في روسيا خلال فترة حكم الرئيس فلاديمير بوتين.
اللافت أن العقيدة الجديدة تُقِرُّ بأن "عامل القوة واستخدامها" تزايدا في العلاقات الدولية في الفترة الأخيرة. ويرجع ذلك برأي موسكو إلى تفاقم التناقضات وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في العالم بسبب محاولات الدول الغربية فرض مواقفها على دول العالم الأخرى. وهذا يمثل خطورة بالغة، بحسب واضعي العقيدة الجديدة. وكأن محاولات الغرب هذه لم يكن لها وجود في السابق، وكأن مثل هذه المحاولات لا تجري أيضا من قبل دول كبيرة أخرى باتت ضمن المنظومة الرأسمالية العالمية، وباتت منخرطة في الصراعات على مناطق النفوذ في العقود الأخيرة.
وتُحذر العقيدة من المخاطر التي يتعرض لها الأمن العالمي بسبب تزايد القدرات العسكرية وتصنيع أنواع حديثة من الأسلحة. ومع ذلك تؤكد أن مخاطر اشتعال حروب كبيرة، بما فيها الحرب النووية، بين الدول الكبرى في العالم ليست كبيرة. بيد أن العقيدة لا تستبعد مخاطر المواجهات على المستوى الإقليمي في ظل تصاعد الأزمات والإرهاب.
ويرى مراقبون روس أن هذا قد يُفسر تأكيد المسؤولين الروس الكبار غير مرة على أهمية اختبار الأسلحة الروسية الحديثة في سوريا، على سبيل المثال.
من الأمور اللافتة أيضا في عقيدة السياسة الخارجية الروسية الجديدة، تأكيدها رفض روسيا للتدخلات العسكرية وغيرها. وينص هذا البند في هذه العقيدة على "أن الاتحاد الروسي لن يسمح بالتدخلات العسكرية وغير العسكرية التي تخالف القانون الدولي وتقوض سيادة الدول".
بعض الخبراء الروس يعتقد أن هذا البند ينسجم تماما مع خطوات روسيا في أوكرانيا وسوريا، ولا يستبعد هؤلاء أن يكون هذا من المؤشرات على أن موسكو مستعدة لتكرار تجربتها في البلدين المشار إليهما، إذا اقتضى الأمر مستقبلا. وبرغم ذلك، فإن روسيا في عقيدتها الجديدة للسياسة الخارجية تُشدد على ضرورة الحوار مع الولايات المتحدة سواء على المستوى الثنائي أو بشأن القضايا العالمية. وتشترط موسكو هنا أن يجري هذا الحوار على أساس التكافؤ والمساواة والاحترام المتبادل للمصالح وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
وفي هذا السياق، تؤكد العقيدة الجديدة رفض روسيا محاولات الولايات المتحدة فرض قوانينها على الدول الأخرى بمخالفة القانون الدولي. وتؤكد كذلك رفض الضغوط العسكرية والسياسية والاقتصادية الأميركية عليها، لافتة إلى أنها تحتفظ بحقها في الرد الصارم على التوجهات الأميركية غير الودية، بما في ذلك عبر تعزيز القدرات العسكرية والدفاعية الروسية وغيرها.
وتُكرر العقيدة أن موسكو تعتبر نشر الدرع الصاروخية الأميركية ـ الأطلسية تهديدا للأمن القومي الروسي يستوجب الرد بإجراءات مماثلة. وبالنسبة إلى علاقة روسيا مع "حلف شمال الأطلسي"، فإنها تتشابه إلى حد كبير مع ما قيل عن العلاقة مع واشنطن. فهذه العلاقة سوف تتوقف على استعداد "الناتو" للتعاون مع روسيا وفق مبدأ الشراكة المتكافئة، مع التأكيد على نظرة موسكو السلبية لتوسع الحلف واقترابه من الحدود الروسية.
من الأقسام المهمة للعقيدة الروسية الجديدة للسياسة الخارجية، ما يتعلق بالدفاع عن المصالح الاقتصادية لروسيا في أنحاء العالم. وينص هذا القسم على "أن الدولة الروسية ستقدم الدعم للشركات الروسية لاستيعاب الأسواق الجديدة وتطوير وجودها في أسواقها التقليدية، بجانب التصدي لمحاولات التمييز بحق المستثمرين والمصدرين الروس في الأسواق العالمية".
ولعلنا، هنا، نتذكر المقالة التي نشرها فلاديمير بوتين مطلع العام 2012 عشية عودته للرئاسة الروسية لولاية ثالثة في صحيفة "موسكوفسكييه نوفوستي" الروسية. ففي هذه المقالة يقول بوتين: "إن الشركات الروسية تفقد مواقع عملت من أجلها عشرات السنين في أسواق البلدان التي اجتازت "الربيع العربي"، ويتم تجريدها من عقود مربحة كبيرة في هذه الأسواق، مثلما حصل في العراق في وقت سابق، حيث تحتل هذه المواقع شركات الدول التي كانت لها اليد الطُولى في تغيير أنظمة الحكم.. وقد يخطر على بال المرء أن الأحداث المأساوية لا يقف وراءها الحرص على حماية حقوق الإنسان بقدر ما تقف وراءها رغبة أحد ما في إعادة اقتسام الأسواق.. على أي حال فإننا لا يمكن أن ننظر نظرة هادئة إلى هذا".
بالطبع، ما جاء في العقيدة الجديدة بشأن الدفاع عن المصالح الاقتصادية الروسية في الخارج لا يقتصر على أسواق البلدان العربية فقط. فبعض التقديرات تشير إلى أن الاستثمارات المتراكمة للشركات الروسية الكبرى (تشارك الدولة في معظمها) في عدة أنحاء من العالم خلال السنوات الأخيرة لا تقل عن 300 مليار دولار.
أخيرا، لقد وصف البعض في روسيا العقيدة الجديدة بأنها تنطلق من السياسة الواقعية للكرملين، حيث عالم اليوم تشتدُ فيه المنافسة والصراع على مناطق النفوذ والأسواق بين الدول الرأسمالية الكبيرة. ووصفها فريق آخر من الروس بأنها عقيدة للسياسة الخارجية ذات أبعاد "هجومية" في مرحلة صعبة ودقيقة تمر بها روسيا والعالم.
نشرت للمرة الأولى في "السفير"