روسيا وقواعدها العسكرية
بعد مرور العام الأول على الوجود العسكري الروسي في سوريا، صادق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الرابع عشر من الشهر الجاري على اتفاقية مع دمشق جرى توقيعها صيف 2015، حول انتشار القوات الجوية الروسية في قاعدة «حميميم» على أساس دائم. علماً بأن موسكو كانت قد لمَّحت غير مرة إلى أن تدخلها العسكري في سوريا موقت ومرتبط بدعم الحكومة السورية في محاربة الإرهاب، حتى أن بعض نواب البرلمان الروسي تكهن آنذاك بأن الوجود العسكري الروسي في سوريا قد لا يزيد عن شهور عدة.
ومن أهم ما تنص عليه الاتفاقية مع دمشق، هو سماح السلطات السورية لروسيا باستخدام قاعدة «حميميم» من دون مقابل، والسماح لموسكو كذلك بنقل الأسلحة والذخائر والمعدات العسكرية والمواد الضرورية لإنجاز المهمات الموضوعة أمام القوات الجوية الروسية من دون تحصيل أي ضرائب على عبور الحدود السورية.
وتقضي الاتفاقية بأن العسكريين الروس بإمكانهم عبور حدود الدولة السورية من دون الخضوع لعمليات تفتيش من قبل قوات حرس الحدود والجمارك السورية. وتمنح الاتفاقية أفراد المجموعة العسكرية الروسية وعائلاتهم حصانة وميزات على غرار تلك التي يتمتع بها الديبلوماسيون الأجانب. وفي حال رغب أحد الطرفين في الخروج من الاتفاقية، يتم إيقاف سريانها بعد مرور عام على تقديم هذا الطرف بلاغاً رسمياً بهذا الشأن.
ومن المعروف أن موسكو تستعد في الوقت الراهن للمصادقة على اتفاقية أخرى مع دمشق لتحويل مركز الدعم اللوجيستي للسفن الحربية الروسية في «طرطوس» إلى قاعدة عسكرية دائمة بشروط قاعدة «حميميم» الجوية نفسها تقريباً.
إن هذه الخطوة الروسية تجاه سوريا تُعد الأولى من نوعها لروسيا ما بعد السوفياتية بشأن نشر قواعدها العسكرية خارج الساحة السوفياتية السابقة، حيث اقتصر الأمر في السنوات الماضية على قواعد عسكرية روسية داخل الساحة المذكورة حصراً. فبعد كبوة تسعينيات القرن العشرين، شرع الروس في إحياء قواعدهم العسكرية خاصة في بعض جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق.
وتمتلك روسيا حالياً قواعد عسكرية في طاجيكستان وأرمينيا وقيرغيزيا وبيلاروسيا. ويرتبط انتشار هذه القواعد العسكرية الروسية بتجهيز جيوش الدول المذكورة أعلاه بالسلاح والعتاد العسكري الروسي. ففي العام 2013، قررت موسكو تكثيف تسليح طاجيكستان وقيرغيزيا. والهدف من هذه الخطوة الروسية كان منع واشنطن من تعزيز مواقعها في بعض جمهوريات آسيا الوسطى السوفياتية السابقة، حيث جاءت بعدما أغلقت قيرغيزيا القاعدة الأميركية في «ماناس»، وسمحت بالوجود العسكري الروسي الطويل الأمد فيها.
ووافقت طاجيكستان، في الفترة نفسها، على اتفاقية تمديد مُرابَطة القاعدة العسكرية الروسية في أراضيها حتى العام 2042. واكتسبت هذه الخطوة الروسية تجاه هذين البلدين أهمية بسبب تأرجح أوزبكستان، في عهد الرئيس السابق إسلام كريموف، في علاقاتها بين روسيا والولايات المتحدة. وارتبطت أيضاً بما تسرب من معلومات آنذاك عن تفكير كازاخستان، حيث لا تُوجد قواعد عسكرية روسية، في منح قاعدة عسكرية لواشنطن في ميناء «أكتاو» الاستراتيجي الواقع على بحر قزوين. ويُعد هذا الميناء الأكثر قرباً من روسيا من بين جميع الموانئ والمطارات الواقعة في الدول المُشاطئة لبحر قزوين.
ويرى الروس أن المُرابطة العسكرية الدائمة للولايات المتحدة في «أكتاو»، حيث تقع حقول كبيرة للنفط والغاز، سوف تسمح لواشنطن بتقوية نفوذها وتأثيرها بشدة في قزوين وآسيا الوسطى. غير أن هذا التفكير من قبل كازاخستان لم يجد طريقه نحو التنفيذ حتى يومنا الحاضر.
لم تقتصر محاولات روسيا للتمدد عسكرياً على منطقة آسيا الوسطى السوفياتية السابقة، بل امتدت إلى جنوب القوقاز أيضاً. فبعد الحرب الروسية ـ الجورجية في 2008، اعترفت موسكو باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا، وأقامت قواعد عسكرية هناك. كما أقدمت موسكو على تعزيز التعاون العسكري مع أذربيجان من خلال عقد بنحو مليار دولار لبيع الجيش الأذربيجاني أسلحة ومعدات عسكرية روسية. وهذا بهدف وضع باكو، بدرجة ما، تحت التأثير الروسي، خاصة في ظل ميلها نحو الغرب وحلف «الناتو»، علماً بأن موسكو طلبت من باكو في تسعينيات القرن الماضي إقامة ثلاث قواعد عسكرية روسية على الأراضي الأذربيجانية، إلا أن باكو رفضت ولا تزال ترفض هذا الطلب. كما أن جورجيا قبل حربها مع روسيا رفضت طلبات مشابهة لموسكو.
إن نشر روسيا لقواعدها العسكرية سواء في الساحة السوفياتية السابقة أو خارجها يأتي أساساً في سياق تنافسها وصراعها الجيوسياسي والجيواقتصادي مع الولايات المتحدة. والبُعد الاقتصادي ليس غائباً تماماً عن هذا التنافس، بما في ذلك على خطوط نقل الغاز الطبيعي والأسواق. فقبل عودته لولاية رئاسية ثالثة بأيام قليلة، نشر فلاديمير بوتين مقالة في شباط 2012، تحت عنوان «روسيا والعالم المتغير». يقول بوتين في هذا المقال: «إن الشركات الروسية تفقد مواقع عملت من أجلها خلال عشرات السنين في أسواق بلدان «الربيع العربي»، حيث يتم تجريدها من عقود مربحة كبيرة في هذه الأسواق مثلما حصل في العراق في وقت سابق، وتحتل هذه المواقع شركات الدول التي كانت لها يد في تغيير أنظمة الحكم». ويُضيف: «نحن نعتزم العمل على استعادة مواقعنا الاقتصادية في وقت سريع».
لقد اعتمدت الولايات المتحدة، ولا تزال، في توسعها الخارجي وتحقيق أهدافها الجيوسياسية على نشر قواعدها العسكرية حول العالم. وكانت هذه العملية مدعومة، بدرجة كبيرة، بقوة اقتصادية تضغط مباشرة أو عبر المنظمات الاقتصادية والمالية الدولية على الدول لقبول هذه القواعد العسكرية. وبعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي، الذي كانت لديه أيضاً قواعد عسكرية في مناطق عدة بالعالم، لم تتوقف واشنطن عن نشر قواعدها العسكرية، لتصل إلى أوروبا الشرقية ودول البلطيق. وهذا يزيد من رغبة روسيا في نشر قواعد عسكرية خارج حدودها في سياق معادلة للتنافس والصراع مع واشنطن على مناطق النفوذ والأسواق.
نشرت للمرة الأولى في "السفير"