الشعب الروسي - مركز التصور الجيوبولتيكي
الشعب الروسي – جماعة تاريخية تحمل ملامح الشخصية السياسية التامة القيمة والراسخة. والشعب الروسي متوحد اثنيا، وثقافيا، ونفسيا ودينيا. لكن ليس هذا فقط ما يكون الأساس الأهم لوضعه في مركز التصور الجيوبولتيكي موضوعا للإستراتيجية السياسية والاجتماعية.
تكون الشعب الروسي، خلافا للكثير من الشعوب، كحامل لحضارة خاصة تتسم بكل الملامح المميزة للظاهرة العالمية – التاريخية الأصلية المتكاملة. الشعب الروسي – ذلك الثابت الحضاري الذي كان المحور المؤسس لإقامة لا دولة واحدة بل لكثير من الدول: بدءا من موزاييك الإمارات السلافية الشرقية قبل روسيا الموسكوفية وإمبراطورية بطرس والمعسكر السوفيتي. زد على ذلك أن هذا الثابت قد حدد التتابع والارتباط بين التشكلات ومدى اختلافها سياسيا، اجتماعيا، ترابيا وبنيويا. الشعب الروسي لم يقدم القاعدة الاثنية فحسب لجميع هذه التكوينات الحكومية، بل وعبر فيها عن فكرة حضارية لا تشبه أي فكرة حضارية أخرى. فليست الدولة هي التي كونت الأمة الروسية. بل، على العكس، إن الأمة الروسية، الشعب الروسي قد وازن في التاريخ بين الأنماط المختلفة لنظم الحكومة معبرا بطريقة مختلفة (طبقا للظروف) عن خصوصية رسالته الفريدة.
ينتمي الشعب الروسي من دون شك إلى عداد الشعوب ذات الرسالة. وله، كما لكل شعب ذي رسالة، أهميته الكونية التي تشمل الإنسانية كلها، والتي لا تتنافس فقط مع الأفكار القومية الأخرى بل ومع أنماط الصيغ الأخرى من العالمية الحضارية. وقد طور ك. ليونتيف والأوراسيون الروس هذه الفكرة إلى حدود بعيدة من الكمال.
وبغض النظر عن الفتن والمراحل الانتقالية والجوائح السياسية بقي الشعب الروسي محتفظا بهويته "الرسالية"، وبناء على ذلك بقي على الدوام فاعلا سياسيا في التاريخ. وبعد كل هزة حكومية دورية كانت نفس تلك القوة الروسية العريقة الجبارة تقيم بنى سياسية جديدة مجسدة اندفاعها الروحي في صيغ جيوبولتيكية جديدة. زد على ذلك أنه ما إن تتطور البنى الحكومية حتى الخط الحرج والذي ينداح من بعده الضياع النهائي للصيغة السياسية ذات المضمون القومي حتى تحل الأزمات والكوارث التي يبدأ بعدها بناء جيوبولتيكيا واجتماعيا جديدا، تجسيدا للرسالة الحضارية للشعب الروسي في هياكل وبنى سياسية جديدة.
وفي المرحلة الانتقالية الحالية يجب أن ينظر إلى الشعب الروسي بالذات على أنه الفاعل السياسي الرئيس الذي يبدأ منه سلم مصالح روسيا الجيوبولتيكية والإستراتيجية بالإضافة إلى مصالحها الاجتماعية – الاقتصادية.
إن الشعب الروسي هو روسيا اليوم ولكن لا كدولة مرسومة بوضوح بل كطاقة جيوبولتيكية واقعية وملموسة من جهة، ولكنه لم يحدد بعد بنيته الحكومية الجديدة – لا إيديولوجيتها ولا حدودها الترابية ولا تركيبتها الاجتماعية السياسية.
ومع ذلك فإن "الطاقة الروسية الكامنة" تملك اليوم من الخصائص الثابتة ما يزيد بكثير على ما تملكه المسميات سريعات الزوال – الفيدرالية الروسية أو مجموعة الدول المستقلة. وترتبط هذه الخصائص مباشرة بتلك الرسالة الحضارية التي يتمثل في تحقيقها مغزى وجود الشعب الروسي.
_ أولا، الشعب الروسي (= روسيا) مسؤول دون شك عن السيطرة على المناطق الشمالية – الشرقية من أوراسيا وهذه المناطق hلروسي تمثل مسرح العملية الجيوبولتيكية الطبيعية للتاريخ الروسي خلال القرون الأخيرة والتي لم تتوقف لدى نزول أية كوارث سياسية. لقد أسمى ماكيندر روسيا "المحور الجيوبولتيكي للتاريخ" وهذا قول صحيح كل الصحة، لأن الشعب الروسي كان في حقيقة الحال يتطلع تقليديا إلى الإعمار الحضاري لكافة تلك الآماد الأوراسية داخل القارية، الممتدة في نفس مركز الكتلة القارية. ومن هنا يمكننا الاستنتاج بأن المصالح الإستراتيجية للروس غير منفصلة عن آماد الأوراسيا الشمالية – الشرقية وفي هذا يكمن المبدأ المؤسس لدى تحديد الآفاق الحقيقية لجيوبولتيكا روسيا (= الشعب الروسي).
_ ثانيا: وهب الشعب الروسي (= روسيا) نمطا خاصا من التدين والثقافة اللذين يختلفان اختلافا حادا عن الغرب الكاثوليكي – البروتستانتي ، وعن تلك الحضارة بعد المسيحية التي نمت هناك. وبصفة النقيض الثقافي والجيوبولتيكي لروسيا ينبغي أخذ "الغرب" بمجموعه لا واحدة من الدول المكونة له. فالحضارة الغربية المعاصرة ذات توجه عالمي: ففي كل حبيباتها المتناثرة توجد وحدة ثقافية قائمة على الحل المميز للمشاكل الفلسفية و"التبشيرية" للعالم. أما العالمية الروسية، أساس الحضارة الروسية فتتباين بصفة جذرية عن الغرب في جميع نقاطها الأساسية. فهما، بمعنى من المعاني، نموذجان متناقضان ينفي كل منهما الآخر، قطبان متناقضان. وعلى هذا فإن المصالح الإستراتيجية للشعب الروسي يجب أن توجه ضد الغرب (وهو ما ينبجس من ثابت خيار الحفاظ على الهوية الحضارية الروسية)، أما في المستقبل فيمكن أن يتحقق التوسع الحضاري أيضا.
_ ثالثا، الشعب الروسي (= روسيا) لم يضع قط هدفا له إقامة دولة وحيدة الاثنية متجانسة عرقيا. فرسالة الروس تميزت بطابع عالمي ولهذا السبب بالذات كان الشعب الروسي ينحو بطريقة منهجية إلى بناء الإمبراطورية التي كانت حدودها تتوسع محتضنة خليطا أكبر فأكبر من الشعوب والثقافات والأديان والأراضي والأقاليم. ومن العبث اعتبار "توسعية" الروس المنهجية والواضحة التعبير صدفة تاريخية. فهذه "التوسعية" تمثل جزءا لا يتجزأ في الوجود التاريخي للشعب الروسي يرتبط ارتباطا وثيقا بنوعية رسالته الحضارية. وهذه الرسالة تحمل في داخلها "قاسما مشتركا" يسمح للروس بأن يجتذبوا للتكامل مع إمبراطوريتهم أكثر الوقائع الثقافية تشعبا.
إلا أن لهذا "القاسم المشترك" خصائصه ولا يمكن تطبيقه إلا على تلك الشعوب ذات الخصوصية التاريخية المحددة والمضمون الثقافي، هذا بينما تبقى الشعوب الأخرى (وعلى وجه الخصوص بعض أمم الغرب) غريبة غربة شديدة عن العالمية الروسية (وهو ما يتجلى تاريخيا في لا ثبوتية بل وحتى تناقضية التأثير الروسي في أوروبا).
_ رابعا، الشعب الروسي (= روسيا) ينطلق في وجوده من أفق "لاهوتي خلاصي" أكثر كونية يكتسب في النهاية معنى مسكونيا عاما. والحديث لا يدور حول الاتساع اللامحدود "للمجال الحيوي" الروسي بل حول فرض النمط "الروسي" الخاص برؤية العالم، النمط المتشدد في مسألة الآخرة ويتطلع إلى الكلمة الأخيرة في التاريخ. وهذه هي المهمة الأسمى للأمة "كشعب متوشح بالله".
وهكذا ليس، ومن الناحية النظرية، على وجه البسيطة شعب ولا ثقافة ولا أرض يستقبل الشعب الروسي مصيره أو طريقه باللامبالاة. ويتجلى ذلك بصفة خاصة في إيمان الروس الذي لا يتزعزع بالانتصار النهائي للحقيقة والروح والعدالة وليس فقط في إطار الدولة الروسية بل وفي كل مكان. وحرمان الروس من هذه العقيدة الغيبية الخلاصية مرادف لخصائصه الروحية. فالروس معنيون بكل شيء وبالجميع قاطبة.
ولهذا فإن مصالح الشعب الروسي لا تقتصر في نهاية المطاف على الاثنوس الروسي ولا على الإمبراطورية الروسية ولا حتى على الأوراسيا كلها. وهذا الأفق "المتسامي" للأمة الروسية لا بد من أخذه بالحسبان عند أعداد الإستراتيجية الجيوبولتيكية المقبلة.