كيف يبدو المشهد اليوم من الكرملين؟
ما يشعر به المتابع العربي هذه الأيام هو أن الأخبار الآتية من موسكو كلها تتمحور حول سوريا: القنوات الديبلوماسية مع الأميركيين تنوس بين التعليق والاستمرار، تحذيرات روسية من تدخّل عسكري أميركي، وبيانات روسية عن إرسال تعزيزات عسكرية متنوعة إلى الأراضي السورية. لن يتأخر هذا المتابع، والحال هكذا، في التساؤل: إذا ما كانت سوريا مهمةً لهذا الحدّ لروسيا، فلماذا لا تبدي الأخيرة حسماً صارماً في الملف السوري؟ يمكن الإجابة على هذا السؤال لو جرّبنا أن نرى المشهد البانورامي كما يبدو من الكرملين، ووفق ما تستحضره ذاكرة المتربعين فيه اليوم.
في الأيام الأخيرة من العام 2014، نشرت روسيا وثيقة جديدةً للعقيدة العسكرية لتحل محل الوثيقة السابقة التي نُشرت في شباط 2010. المقارنة السريعة للوثيقتين تظهر كيف تغيرت قراءة موسكو للعالم من حولها. بينما تتحدث الوثيقة القديمة عن نيات عدائية لـ «الناتو» لتطوير دور عالمي أكبر ونشر منشآت عسكرية بالقرب من الحدود الروسية والاستمرار بالتوسع، إضافة إلى مخاوف من العمل على تقويض بعض أنظمة الحكم، تتحدث الوثيقة الحالية عن أن هذه الأخطار قد أصبحت ملموسة وموجودة على أرض الواقع، وأن محاولات إسقاط بعض أنظمة الحكم في محيط روسيا قد تحولت إلى حقيقة. وخلال العامين التاليين لإقرار العقيدة العسكرية الروسية، نجد أن المشهد يزداد قتامةً، من وجهة نظر موسكو. في أيار الماضي قام «الناتو» بتفعيل الدرع الصاروخية في رومانيا، وفي تموز الماضي قررت قمة «الناتو» في بولندا نشر قوات «أطلسية» في عدد من دول أوروبا الشرقية المحاذية لروسيا.
من أوروبا الشرقية إلى أوكرانيا، التي تم التوصل فيها إلى اتفاق جديد لوقف إطلاق النار مطلع أيلول الماضي ـ قبل أيام من اتفاق وقف إطلاق النار في سوريا ـ ولكن الاتفاق لم يصمد سوى لأيام قبل أن ينهار تماماً. ولكن المقاتلين الموالين لموسكو في شرق أوكرانيا أعلنوا عن وقف إطلاق للنار من جانب واحد لمدة سبعة أيام، منتصف أيلول الماضي. دعمت روسيا قرار المقاتلين الموالين لها مفضلةً عدم التصعيد في الشرق الأوكراني وذلك، بشكل رئيسي، للعمل على تحقيق تقدم على طريق إسقاط العقوبات الأوروبية على روسيا، التي فُرضت في أعقاب الأزمة الأوكرانية. التصويت على تمديد العقوبات الأوروبية أو رفعها سيتم في كانون الثاني 2017، وكل ما تحتاجه موسكو هو أن تصوت دولة أوروبية واحدة ضد تمديد هذه العقوبات ـ لأن تمديد العقوبات يتم فقط بقرار جماعي. ولم يكن أبداً من قبيل المصادفة أن يكون وزير الخارجية الألماني فرانك شتاينماير هو من أعلن عن دعم موسكو لقرار وقف إطلاق النار من جانب واحد في الشرق الأوكراني. لا شيء مضمون حتى الآن ولكن الديبلوماسية الروسية لا تزال تحاول خرق الطوق الأوروبي.
قليلاً إلى الجنوب والشرق، نجحت روسيا في تحقيق خرق كبير بالتقرب من أذربيجان، مستفيدةً من الإحباط الكبير الذي تشعر به القيادة الأذربيجانية بسبب انتقادات أوباما لها. لم تكن القمة الثلاثية مجرد صفعة للولايات المتحدة، بل إنها فتحت الباب للاتفاق على ملفات اقتصادية استراتيجية عدة وللتعاون في محاربة الإرهاب والتطرف. فالدول الثلاث، روسيا وأذربيجان وإيران، ليست بعيدةً تماماً عن نيران التطرف الإسلامي في سوريا والعراق. وبحسب تصريحات للمسؤولين الروس في حزيران الماضي، تُقدر أعداد المقاتلين الإسلاميين من الدول السوفياتية السابقة، بحوالي عشرة آلاف يقاتلون الآن في الشرق الأوسط، ويتوقع أن يعودوا ـ أو من يبقى منهم على قيد الحياة ـ إلى بلادهم إذا ما هدأت الجبهات في سوريا والعراق، ما سيشكل مشكلةً أمنيةً كبيرة لروسيا وللدول السوفياتية السابقة، لاسيما في آسيا الوسطى.
آسيا الوسطى و«اللعبة الكبرى» مرةً أخرى؟
بالحديث عن دول آسيا الوسطى، كازاخستان، أوزبكستان، تركمانستان، طاجيكستان، وقيرغيزستان، يكثر الحديث هذه الأيام عن الخشية من حصول أي اضطرابات في هذه المنطقة الحساسة. هذه المنطقة التي اشتهرت تاريخياً بكونها الساحة لما عُرف «باللعبة الكبرى» (The Great Game) التي دارت أحداثها خلال الجزء الأكبر من سنوات القرن التاسع عشر بين الإمبراطورية البريطانية وروسيا القيصرية، تعود اليوم لتثير قلق المراقبين. بدأت اللعبة الكبرى بمحاولة بريطانيا مد طرق التجارة عبر إمارات آسيا الوسطى، وذلك أملاً بإقناع البدو الرّحل في تلك المناطق بالتحضر، وليصار إلى رسم حدود واضحة بين تلك الإمارات لتأخذ شكلاً أقرب إلى الدول العصرية. هدف تلك المحاولة البريطانية هو خلق عازل بين روسيا القيصرية وجوهرة التاج البريطاني ـ الهند ـ ولمنع روسيا من الوصول إلى المحيط الهندي وطرق التجارة الدولية التي تمر من هناك. انتهت اللعبة الكبرى يومها بضم روسيا القيصرية لمعظم آسيا الوسطى واعتبار أفغانستان منطقةً فاصلةً بين الروس والإنكليز. ومنذ ذلك الحين ودول آسيا الوسطى تعتمد بشكل حيوي على العلاقات التجارية والاقتصادية مع روسيا، حتى في مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. ولكن مكانة روسيا في العلاقات التجارية مع آسيا الوسطى تراجعت خلال السنوات الماضية، وفي العام 2008 انتزعت الصين من روسيا مكانة الشريك التجاري الأول مع دول آسيا الوسطى. وفي شباط الماضي أعلنت الصين أنها تتفاوض مع طاجيكستان لافتتاح مركز لمحاربة الإرهاب، وفي أيلول الماضي أعلنت الصين أنها ستمول نقاط مراقبة على حدود طاجيكستان مع أفغانستان.
العلاقات الصينية ـ الروسية هي بالتأكيد علاقات عميقة ووثيقة، ويجمع الطرفين صراعهما مع هيمنة الولايات المتحدة. ولهذا أعلنت روسيا مؤخراً عن تأييدها للصين في قضية بحر الصين الجنوبي، الذي تبني فيه الصين قواعد عسكرية متقدمة. الدعم الروسي هنا مهم، فنسبة كبيرة من الأسلحة التي تنشرها الصين هناك هي روسية المصدر. ولكن هذا، على أي حال، لا يعني أن روسيا تقبل أن تنافسها الصين في منطقة حيوية وحساسة للغاية. فآسيا الوسطى، السهلية بمعظمها، وكما استشعرت بريطانيا منذ حوالي القرنين، هي طرق التجارة والغزو، ولهذا لا يمكن لساكن الكرملين أن يغفل عنها.
تسارع نمو النفوذ الصيني في آسيا الوسطى خلال العامين الأخيرين بسبب تراجع الدور الاقتصادي لروسيا. لا شيء مقلق حتى الآن، وقد يكون بوسع روسيا العودة لمنافسة الصين اقتصادياً في هذه المنطقة والحفاظ على نفوذها. ولكن ما تخشاه روسيا هو حصول حدث أمني مفاجئ يفرض عليها القبول بدور عسكري للصين في هذه المنطقة. سيناريو الحدث الأمني المفاجئ بات مطروحاً بشكل جدي هذا العام. منذ أشهر عدة وقعت مناوشات صغيرة على الحدود بين أوزبكستان وقيرغيزستان؛ ليست هذه هي المناوشات الأولى بطبيعة الحال ولكن من المتوقع أن تزداد وتيرتها مع تصاعد المنافسة على الموارد المائية المتضائلة. وفي نهاية آب الماضي اقتحم انتحاري، يعتقد أنه من الأيغور، بسيارته المفخخة السفارة الصينية في قيرغيزستان. وفاة الرئيس الأوزبكي إسلام كريموف، في نهاية آب الماضي، أبرز خطورة الأوضاع السياسية في بلدان آسيا الوسطى التي تحكمها أنظمة مركزية للغاية يمسك بمقاليدها رجال أقوياء يصعب إيجاد خلفاء لهم. ومن بين الدول الست، فقط قيرغيزستان تعاقب على الحكم فيها أكثر من رئيسين خلال ربع القرن الماضي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.
سيناريوهات الاضطرابات أكثر من أن تحصى وإذا ما حصل اضطراب ما فعلاً في آسيا الوسطى، فقد تجد روسيا نفسها ملزمةً بالاعتماد، بشكل جزئي أو كلي، على الصين للتدخل في تلك المنطقة. وهذا ما يعني تكريس وقائع جديدة في هذه المنطقة الحساسة، ولهذا السبب تجد روسيا أنه لا بد من العمل على التحرر من العقوبات الاقتصادية، للعودة للعب دور اقتصادي مهم في آسيا الوسطى، وكذلك عدم التورط عسكرياً في أي نقطة جغرافية إلى الحد الذي يحول دون قدرة موسكو على التدخل في النقاط الأخرى.
سوريا
وسط هذا المشهد المعقد، يبدو للوهلة الأولى أن سوريا مجرد جزء من تفاصيل كثيرة، ولكنها جزء مهم للغاية، ولاسيما أن مكانة روسيا لا تسمح لها بالقبول بالهزيمة في سوريا. فالعمل على تعزيز صورة روسيا ومكانتها العالمية تحتل جزءاً مهماً من «استراتيجية الأمن القومي»، التي أقرها الرئيس الروسي في اليوم الأخير من العام الماضي، ولا شك في أن مسار الأزمة السورية، ودور روسيا فيها، بات يشكل جزءاً مهماً من مكانة روسيا العالمية. ما تحاول روسيا القيام به، وإن حمل في مظاهره بعض التناقض، هو التحرر من الأزمات الاقتصادية، وهذا ما يتطلب الكثير من الديبلوماسية والبراغماتية، وكذلك العمل على الحيلولة دون خروج الصراعات المسلحة عن السقف المقبول. فكيف يمكن الموافقة بين الديبلوماسية والبراغماتية وتجنب التصعيد العسكري وكذلك عدم القبول بالإملاءات الأميركية؟ هذا هو ما يدور في ذهن الجالسين في الكرملين وهم يتأملون المشهد من البلطيق إلى البحر الأسود وقزوين وآسيا الوسطى وبحر الصين الجنوبي، مروراً بسوريا.
نشرت للمرة الأولى في "السفير"