يد واشنطن الخفية تواصل تاريخا حافلا من الإنقلابات في أمريكا اللاتينية
صرح الرئيس الأمريكي باراك أوباما في مارس/آذار الماضي، بأن بلاده، وبعد التورط في دعم الانقلاب العسكري في الأرجنتين عام 1976، "تعلمت درسا من أخطاء الماضي"، محاولًا خلال زيارته للأرجنتين، طمأنة دول أمريكا اللاتينية، بأن الولايات المتحدة الأمريكية، لم تعد تلك الدولة التي دبرت انقلابات بالجملة في دول مختلفة بالقارة.
بعد شهر واحد من هذه الطمأنة، كُشف النقاب عن دور الولايات المتحدة الأمريكية، في دعم عزل رئيسة البرازيل ديلما روسيف، لتتضح حقيقة تدخل الولايات المتحدة في شؤون القارة الجارة الجنوبية. وهذا التدخل بدأ إبان فترة الحرب الباردة، ويستمر في موجة جديدة من الانقلابات المدبرة داخل القارة اللاتينية، عبر انتهاز الأزمة المالية التي ضربت دولًا بأمريكا الجنوبية.
أمريكا اللاتينية تحت تهديد الانقلابات الأمريكية
لأنه "شيوعي صريح"، كما وصفته المخابرات الأمريكية، عملت الولايات المتحدة، عام 1963 على الإطاحة بخواو غولارت، الرئيس البرازيلي آنذاك، والعضو في "حزب العمال" البرازيلي.
حدث ذلك عبر سلسلة من الأحداث، تولى أمر إدارتها قائد أركان الجيش البرازيلي، أومبرتو كاستيلو برانكو. وحصل الجيش البرازيلي على دعم الولايات المتحدة الأمريكية؛ للإطاحة بغولارت؛ إذ كانت واشنطن تخشى من أن تتحول البرازيل إلى "صين الستينيات"، كما قال السفير الأمريكي لينكولن جوردون.
واعترفت وكالة الاستخبارات الأمريكية، بأنها مولت التظاهرات في شوارع البرازيل ضد الحكومة، وأنها قدمت الوقود والأسلحة للجيش البرازيلي؛ كي يتمكن من حسم المعركة، ثم تولي برانكو زمام حكم البرازيل حتى عام 1985. حين ذاك، قال الرئيس الأمريكي ليندون جونسون، لمستشاريه الذين كانوا يخططون للانقلاب "أعتقد أننا يجب أن نتخذ كل خطوة ممكنة، وأن نكون مستعدين للقيام بكل ما يتعين علينا القيام به"، وذلك وفق سجلات الحكومة الأمريكية، من أرشيف الأمن القومي، التي رفعت عنها السرية.
وحول ما حدث في 17 أبريل/نيسان الماضي، عندما قرر مجلس الشيوخ البرازيلي عزل ديلما روسيف، كان الأمر أشبه بانقلابٍ ناعم، أنهى حكم "حزب العمال اليساري"، المستمر منذ 13 عامًا. وقد دُعمت حملة إزاحتها عن السلطة، من قبل "الصندوق الوطني للديمقراطية" الأمريكي، وكذلك من "الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية"، كما وقفت وراء الإنقلاب نخب "وول ستريت" المالية؛ إذ دخلت هذه المؤسسات من باب الأزمة الاقتصادية للبرازيل، ولكي تعمل على فتح الطريق أمام الشركات الأمريكية العابرة للقارات، ، لشراء الشركات الحكومية البرازيلية.
روسيف التي عملت على خلق توجه اشتراكي جديد، يخالف مصالح الولايات المتحدة، كان مصيرها غير بعيد عن قراءات المراقبين؛ قامت روسيف بما يشبه الانقلاب السياسي، من خلال تقاربها من قوى دولية تناهض الاحتكار الأمريكي، وانضمامها لمجموعة "بريكس" مع روسيا والصين والهند وجنوب إفريقيا، تلك المجموعة التي تعمل على كسر الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي. وعلقت روسيف، التي اعتادت انتقاد السياسة الإسرائيلية بحق الفلسطينيين على الجهود ضدها قائلة "إنهم يتآمرون الآن علنًا، وفي وضح النهار؛ لزعزعة استقرار رئيسة منتخبة بطريقة شرعية".
فنزويلا
في العام 1998، تمكن الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز، من الوصول إلى الحكم، بحصوله على أغلبية ساحقة من الأصوات الانتخابية، ومباشرة، بعد توليه السلطة، بدأ اليساري ـ تشافيز في العمل على إحداث تغيرات جذرية في فنزويلا، أبرزها إستعادة السيطرة على شركة النفط الوطنية وفرض ضرائب مضاعفة على شركات النفط الأجنبية في فنزويلا، والتي كانت في غالبيتها شركات أمريكية؛ لتصبح فنزويلا في المرتبة الثالثة من حيث اعتماد الولايات المتحدة عليها في استيراد النفط، عام 2002.
وسياسيًا، هاجم تشافيز الولايات المتحدة الأمريكية، ووصف سياساتها بـ"الإمبريالية الفاضحة"، وهو ما لم يرق للولايات المتحدة، لذلك عملت حكومتها آنذاك (الرئيس جورج بوش ووزير دفاعه رامسفيلد)، على تأليب الطبقة المتوسطة في فنزويلا على تشافيز، ودعم ضباط الجيش الفنزويلي المعارضين له.
بدأت الخطة بإضراب في شركة النفط الفنزويلية، التي يعتمد عليها تشافيز بشكل أساسي، ثُمّ انقلاب من قبل ضباط في الجيش، لكن تشافيز، الذي جرى اعتقاله، استطاع التواصل مع ضباط الجيش الموالين له، ومن ثمّ إعادة تشغيل شركة بترول فنزويلّا، وأخيرًا العودة إلى منصبه من جديد، بعد 73 ساعة فقط.
ولأن الولايات المتحدة غير راضية عن فنزويلا، ورئيسها اليساري الحالي نيكولاس مادورو، فقد أعلن الأخير في فبراير/شباط الماضي، عن محاولة انقلابية يقف وراءها عدد من ضباط سلاح الجو، كانوا ينوون مهاجمة بعض النقاط الاستراتيجية في العاصمة كاراكاس بواسطة طائرات حربية.
واتهم مادورو الولايات المتحدة الأمريكية بالوقوف وراء هذه المحاولة، وتحديدًا، كما قال "مجلس في السفارة الأمريكية هو من كلف بوضع سيناريو الانقلاب". ولا يزال مادورو، حسب ما نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، قبل أيام "مُعرّضًا لانقلاب عسكري"؛ إذ نقلت الصحيفة عن مسؤولين استخباراتيين أمريكيين قولهم، إنّه "من الممكن أن يُقال من منصبه، سواء في انقلاب داخل قصره، يقوده مساعدون مقربون منه، أو حتى من خلال انقلاب عسكري".
الأرجنتين
قبل أربعين عامًا، دعمت الولايات المتحدة انقلابًا عسكريًا، أدى إلى إبادة جماعية في الأرجنتين: كان ذلك في 24 مارس/آذار 1976، عندما استولى الجيش بقيادة الجنرال جورج رافائيل فيديلا، على السلطة، بعد إطاحتهم بالرئيس الأرجنتيني إيزابيل بيرون.
استمر هذا الانقلاب حتى 1983، مُتسببًا في مقتل نحو 30 ألف شخص، وزُجّ خلاله بالآلاف من الأرجنتينيين في السجون دون محاكمات، وتعرضوا للتعذيب، وقد عُرفت هذه الفترة باسم "الحرب القذرة".
ورغم وفاة فيديلا، عام 2013، أثناء قضائه عقوبته في السجن؛ بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، إلا أن الأرجنتين كانت، ومازالت، تسلط جل غضبها على الولايات المتحدة الأمريكية، التي دعمت انقلابه.
لم تترك الولايات المتحدة الأرجنتين في حالها، وهي الدولة التي تعد نقطة ارتكاز مهمة لفتح آفاق التعاون السياسي والأمني مع أمريكا اللاتينية، إلا بعد فوز موريسيو ماكري، مرشح يمين الوسط، في الانتخابات الرئاسية الأرجنتينية العام الماضي؛ إذ إن فوزه يعني لواشنطن، إنهاء 12 عامًا من تاريخ حكم الأحزاب اليسارية.
ويعتبر البعض فوز موريسيو ماكري بمثابة انقلابٍ ناعمٍ آخر؛ إذ تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية، من إزاحة الرئيسة الأرجنتينية كريستينا كوشنر، في انتخابات قادها الإعلام الأمريكي، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، فكوشنر أعلنت انحيازها للشعوب المقهورة على منبر الأمم المتحدة، واتهمت الولايات المتحدة بدعم الإرهاب، بينما وضع ماكري تطوير العلاقات الأرجنتينية الأمريكية على رأس أهدافه.
إعادة إنتاج الانقلاب.. بنعومة
لم تتوان الولايات المتحدة الأمريكية عن استخدام الدسائس مع دول أمريكا اللاتينية؛ لتتدخل في شؤون هذه الدول، بشكل واضح؛ بهدف إلجام السياسيات المناوئة لها.
وتنظر الولايات المتحدة الأمريكية إلى أمريكا اللاتينية باعتبارها ساحة للاستثمارات الأمريكية؛ لذلك حرصت على تكريس نمط التبعية الاقتصادية لها.
ويرى خبراء في شؤون أمريكا اللاتينية، أن الظرفية الاقتصادية الإيجابية، التي طبعت مطلع الألفية الثالثة في أمريكا اللاتينية، ساهمت في تزايد عدد الحكومات اليسارية، وظهور قوى فاعلة قاريًا وعالميًا، إلى جانب ظهور التحرر من الغطاء الأمريكي على مستوى اتخاذ قرارات السياسة الخارجية في المنطقة. هذه العوامل مجتمعة لا تخدم مصالح الزعامة العالمية الأمريكية؛ فواشنطن تتدخل في مناطق عدة من العالم؛ لمواجهة مثل هذه العوامل في منطقة تشكل امتدادًا جغرافيًا حيويًا لزعامتهًا.
تحركات فنزويلا والبرازيل، شكلت نموذجًا للتغيرات الجيوسياسية، التي لا تتناسب مع المصالح الاستراتيجية لواشنطن. ذلك أن تزايد نفوذ فنزويلا في أمريكا اللاتينية، سهل تأسيس محور اشتراكي معاد للولايات المتحدة؛ إذ تمكن الرئيس الراحل هوغو شافيز من إنشاء التحالف "البوليفاري" لشعوب أمريكا، والمعروف اختصارًا بالألبا "ALBA".
كما أن البرازيل أصبحت من القوى الصاعدة ضمن مجموعة "البريكس"، وتنادي بنظام عالمي متعدد الأقطاب، وبمقعد دائم في مجلس الأمن الدولي. وبفضل الدبلوماسية النشطة للرئيس السابق لولا داسيلفا، تمت تقوية علاقات التعاون "جنوب – جنوب"، من خلال تنظيم قمم "أمريكا الجنوبية – العالم العربي"، و"أمريكا الجنوبية- إفريقيا"، وهما مبادرتان حاولت واشنطن احتواءهما منذ انطلاقهما؛ خوفًا من تحولهما إلى محورين لتغذية النزعة المناهضة لها.
محاولات واشنطن لتغيير نظام هوغو شافيز في كراكاس، كانت واضحة ولا شك فيها. والتدهور الحالي لاقتصاد فنزويلا؛ بسبب تراجع أسعار النفط، وضعف القيادة "الكاريزمية" للرئيس الحالي، شكلا فرصة جديدة أمام واشنطن؛ لإعلان مباركتها للمعارضة، كبديل سياسي في فنزويلا.
الخيوط الظاهرة للانقلاب المؤسساتي على رئيسة البرازيل ديلما روسيف، تؤكد أن واشنطن لن تسمح لأية دولة منفردة بالسيطرة على مجال جيوسياسي، يمكن أن يشكل تهديدًا لمصالحها الاستراتيجية، كما أن تغيير الحكومات اليسارية بأخرى يمينية في أمريكا اللاتينية سيعيد الاستقرار إلى موازين القوى في المنطقة.
الحكومة الجديدة وإعادة رسم التوجه السياسي البرازيلي
فور إقصاء روسيف عن القصر الرئاسي، بدأت تتكشف خيوط الصفقة السياسية التي أطاحت بها وحضرت لحقبة جديدة مبنية على سياسات تخدم مصالح الضالعين في الإنقلاب. إذ أفادت معلومات بأن وزارة الخارجية البرازيلية بدأت بالفعل التنسيق مع إسرائيل حول قبول تعيين سفير بديل لداني دايان الذي رفضته حكومة الرئيسة ديلما روسيف باعتباره أحد سكان المستوطنات المبنية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. الخارجية أكدت في اتصالها أنها تقبل حتى بدايان إذا ما اقترحت الحكومة الإسرائيلية ذلك مجدداً.
وفي الإرتدادات الداخلية لانتقال السلطة، أزيحت ملفات الفساد عن قياديي المعارضة السابقة وأبرزهم المرشح السابق لرئاسة الجمهورية أيسيو نيفيز الذي أسقطت عنه دعوى التورط في فضيحة الشركة النفطية الحكومية "بتروبراس"، أما الأغرب فكان تراجع السناتور المعزول ديلسيديو دي أمارال المسؤول السابق في الشركة عن إفادته السابقة التي كشفت ضلوع نيفيز في عمليات الفساد وتلقي الأموال، لم يكتف أمارال بتغيير أقواله بل تحدث عن امتلاكه معلومات تفيد بتورط الرئيسة ديلما روسيف والرئيس الأسبق لويس إيناسيو لولا دا سيلفا.
تنظيف سجل نيفيز انسحب على ثمانية وزراء جدد عينهم الرئيس بالوكالة ميشال تامر، فتوزير متورطين يواجهون دعاوى فساد واختلاس للمال العام يعطيهم الحصانة لعدم المثول أمام المؤسسات القضائية، مؤسسات بدت صامتة أمام ما رأت فيه سابقاً تحايلاً على القوانين وحماية للمفسدين بالإشارة إلى الرئيس الأسبق لولا دا سيلفا الذي واجه منعاً قضائياً من تسلم وزارة شؤون الديوان الحكومي بناء على اتهام ما زال قيد التحقيق. الأمر الذي وصفه عدد من المختصين في القانون بأنه تواطئ جلي من أجل تحوير ملف مكافحة الفساد وتجييره في الإستخدام السياسي ضد حزب العمال.
على مستوى علاقات البرازيل الخارجية، يبدو أن اختيار الوزير جوزي سيرا المقرب جداً من الإدارة الأميركية لوزارة الخارجية يشي بسياسات مختلفة جداً عن العهد السابق، سياسات قد تشهد تقارباً غير مسبوق مع الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، وبالتالي إخراج البرازيل من محورها الحالي المتقارب مع الصين وروسيا.
ولم تكن دلالات التعيينات الإدارية أقل خطورة من التعيينات الوزارية، فتامر الذي شعر بامتعاض دول الجوار وعدد من الدول المحورية سارع إلى استرضاء حلفائه الأميركيين وتسليمهم مفاتيح الإقتصاد من خلال تعيين إيان غولدفاغن وهو إسرائيلي يحمل الجنسية البرازيلية كحاكم للمصرف المركزي، إجراء اعتبره قادة حزب العمال "رشوة سياسية والتحاقاً بالمشروع الخارجي الطامح إلى السيطرة على مقدرات البلاد وأسرارها الإقتصادية".
كما أن الشركات الأميركية بدأت اتصالاتها مع تامر فور تسلمه السلطة للبحث حول التلزيمات النفطية في المياه الإقليمية البرازيلية، عروض كان قد رفضها الرئيس الأسبق لولا دا سيلفا معتبراً أن بلاده حازت على سيادتها الإقتصادية من خلال شركة "بتروبراتس" الوطنية التي تملك خبرات وكفاءات تضاهي كبرى الشركات العالمية. وهذا يوضح أن الهجوم على بتروبراس وشيطنتها من خلال الضخ الإعلامي الموجه، حوّل الشركة من معلم وطني إلى نذير شؤوم بالنسبة للبرازيليين، وعليه باتت الأبواب مفتوحة للشركات الأجنبية التي تحاول السطو على أكبر ثروة نفطية تعوم عليها المياه البرازيلية.
يتساءل المراقبون في البرازيل عن الصدفة التي جمعت بين حدثين مصيريين في أميركا اللاتينية، فانقلاب البرلمان ومجلس الشيوخ في الباراغواي عام 2012 على الرئيس الأسبق القس فرناندو لوغو، جاء بعد تولي السفيرة الأميركية المخضرمة في شؤون أميركا اللاتينية ليليانا وايفز شؤون سفارة بلادها في أسونسيون، وبعد عام فقط تتولى ويفيز مسؤولية السفارة الأميركية في برازيليا، لتصبح شاهدة على ثاني انقلاب دستوري خلال عملها، فهل هذا مجرد صدفة أم أن الدبلوماسية المخضرمة باتت ضليعة في هندسة الإنقلابات؟