أطر السلام المتحركة في سورية بانتظار "السياق الثالث"..فما هو؟

17.03.2017

كثيرةٌ هي الأسباب و المتغيرات التي تدفعنا إلى القول أن الأزمة السورية ليست حالياً على سكة الحل الصحيحة، رغم المساعي المرتبكة التي يبذلها المبعوث الأممي إلى سورية ستيفان ديمستورا الرامية إلى إحداث خرقٍ سياسيٍّ في مسار الحل في سورية مستفيداً من الصمت الأميركي من جهة، و سياق أستانة من جهةٍ ثانية الذي كان من المفترض بهأن يحرك المياه الراكدة في مسار الحل السياسيّ، و لاهثاً يسارع ديمستورا لإيجاد حلٍ في سورية مستفيداً من الخبرة الدولية في صراعاتٍ مشابهة في البنية (الجيواستراتيجية للصراع).

ولعلّ التشابه بين الأزمة السورية والأزمة الكمبودية التي وقعت في الربع الأخير من القرن الماضي في ظروفهما الإقليمية ومراحل تطورها شكلاً، شجعت ديمستورا على الاستفادة من تجربة الأمم المتحدة في تلك الأزمة، فنجد أنّ مفردات الحل في تلك الأزمة تستعمل بطريقةٍ مشابهة ونسقٍ تراتبيّ مماثل نوعاً ما في شكل الحل السوريّ المفترض، وفي مقدمها "السلطة الانتقالية" تأسيساً على سلطة قائمة وليس بديلاً عنها، إضافةً إلى الانتخابات ومقترح مبادئ الدستور في نص وثيقة السلام، وتلازم وتوازي المسارين العسكريّ والسياسيّ بما فيها وقف إطلاق نار دائم بضمانةٍ إقليمية ودولية، والإشراف الدولي على وقف إطلاق النار وضبط التسلح عبر الحدود الإقليمية، وغيرها من مفردات  تستخدم في مسار جنيف السوري حالياً، وهو نموذجٌ قد لا تعارضه روسيا مستقبلاً بعد الأخذ برؤيتها وملاحظاتها لشكل الحل النهائيّ.

ولكن ذات الخبرة الدولية أيضاً تقودنا إلى إمكانية قراءة شكل الحل في سورية بطريقةٍ مغايرةٍ انطلاقاً من ذات المتغيرات، فنمط التدخل الأميركي المحدود في الأزمة الكمبودية وشبيهه في الأزمة السورية والحرب بالإنابة مع روسيا ونمط التدخلات الإقليمية المتشابه في الأزمتين ووجود الإرهاب بكثافة، قد يفضي إلى نماذج أخرى في تحليل واستشراف شكل الحل السوريوعلى رأسها اتفاق السلام في جمهورية البوسنة والهرسك المعروف بـ" دايتون"، الذي يعد شكلاً واضحاً لتقاسم النفوذ الصريح بين أطراف الأزمة الخارجية تلك، نموذجٌ يفضله الأتراك أيضاً لأنّه يفضي لهم بمنطقة نفوذ بين جرابلس وإعزاز تفيدهم مستقبلاً في صراعهم مع الأكراد في حال انقلاب الولايات المتحدة على نظام أردوغان أو غيره وفق ظروف أميركية جديدة،  وترجيح أحد السيناريوهين هو رهنٌ بالسلوك الأميركي في الأزمة السورية، وهذا يتطلب إعادة قراءة تطورات مسار جينيف وكيف أثرت عليه المتغيرات الكبرى، فدخول روسيا في صلب المعارك في الأزمة السورية بتاريخ 30/9/2015 قد أنتج لنا سياقاً دولياً اسمه "سياق فيينا" للحل كنوعٍ من تطويق مفاعيل هذا الدخول وأنتج هذا السياق مرجعية القرار (2254) كمرجعية للحل غي سورية، وكانت معه جولات مسار جينيف الثالث بجولاته الثلاث.

ولاحقاً طرأ متغيرٌ جديدٌ على الأزمة السورية متمثلٌ بدخولٍ تركيّ (عدواني) في صلب المعارك في سورية بعد (24/8/2016) وكان لابد من احتوائه روسياً وأنتجت مفاعيله "سياق أستانة" بجولاتها الثلاث، وكانت مدخلاً لإعادة قطار جينيف على سكة الحل السياسيّ في مسار جينيف الرابع بجولاته الأربعة من خلال وقف اطلاق النار باتفاقٍ إقليمي (اتفاق موسكو 31/12/2016)،ولكن سريعاً طرأ متغيرٌ جديد في الأزمة السورية أفقد سياق أستانة قوته الدافعة، وأربك حسابات أطرافه، وأخل بتوازنات مسار جينيف، إنّه تعزيز الدخول الأميركي "المحدود" في صلب المعارك في سورية، وتعزيز البنية التحتية لهذا التدخل (العدوان) عبر إنشاء قاعدتين في الشمال الشرقي من سورية، الأمر الذي يتطلب سياقاً جديداً مشابها لسياقي "فيينا واستانة" لبلورة الحل في مسار جينيف أوإعادة كتابة أسسه..، وربما قد يتغير كلّ شيء في مسار جينيف إذا ماطلت الولايات المتحدة في انعقاده أو رفضت انعقاده بالتفاهم مع روسيا من جهة وتركيا من جهة مقابلة، فالمماطلة الأمريكية تعني سلفاً تبنيها شكل اتفاق دايتون أيّ تقاسم النفوذ في سورية مع روسيا وهو أمرٌ سيدفع تركيا إلى تبني ذات الخيار ولكن بدوافع مختلفة لمنع وصول الكرد إلى عفرين وهذا يتطلب انقلاباً على تفاهماتها مع روسيا في سياق أستانة الأمر الذي يدخل مسار جينيف عداد الموتى.

أمّا في حال قررت الولايات المتحدة الدخول في تفاهمات مع روسيا وتركيا حول سورية في إطار قرارها بالتدخل العسكري المحدود في سورية والذي نجد إرهاصاته في اجتماعات أنطاليا بين رؤساء أركان روسيا وتركيا والولايات المتحدة 7/3/2017، قد ينتظم مسار الحل في سورية دون تحديد شكله، أمّا طبيعة وحدود تأثير واتجاه هذ الانتظام فهي رهنٌ بطبيعة التفاهمات الأميركية مع روسيا وتركيا، ومعه تبدو الإشارات التي خرجت من اتفاق "منبج العسكري" بين ما يعرف بـ"مجلس سورية الديموقراطية" من جهة والجيش السوري- قوات حرس الحدود من جهة أخرى (وفق مصادر المعارضة)..إضافةً إلى تلميع "حركة احرار الشام" الإرهابية مؤخراً الرافضة لسياق أستانة إشاراتٍ مقلقةٍ للغاية، وهنا علينا تحليل الهدف الأميركي في تعزيز التواجد العسكري في سورية ومدته الزمنية،ويبدو المشهد أمام ثلاث سيناريوهات، السيناريو الأول هو التواجد الدائم وهذا يعني أنّ قراراً أميركياً بتبني خيار "دايتون" في شكل الحل السوري لاعتبارات تتعلق باستراتيجيتها تطويق اوراسيا ومنع التواصل بين اوراسيا والمتوسط عبر ايران والعراق..، والسيناريو الثاني هو التواجد المؤقت في مقابل تواجد روسيّ مؤقت تعمل الولايات المتحدة على فرضه وهذا يعني الاتجاه باتجاه تبني شكل الحل الكمبودي الذي يقضي بانسحاب كلّ الأطراف الخارجية للصراع، أمّا السيناريو الثالث و هو التواجد الرمزي دون الدخول مع تفاهمات مع روسيا بقصد إطالة أمد الصراع إلى أقصى فترةٍ زمنيةٍ ممكنةٍ ريثما تتبلور استراتيجية أميركية لتطويق الصعود الروسيّ..وهذا يعني مزيداً من الفوضى وتقويض سياقي فيينا واستانة.

وعليه فمن الواضح أنّ أطر السلام في سورية ليست ثابتةً بل متغيرةٌ وتتبع خطوط التماس عسكرياً وجيوبولتيكياً، وتتحرك بتغير سلوك الفواعل الخارجية الرئيسة في الأزمة حسب تغير استراتيجياتهم و أهدافهم، وهذا أمرٌ سلبيّ على السلام في سورية ويطيل من أمد الصراع ويعطل مسار الحل السياسي للأزمة السورية، وثبات هذه الأطر للأسف باتت بانتظار استقرار السلوك والهدف الأميركي في الأزمة السورية، دونأن ننسى أنّ إشاعة الفوضى (الكاوس) في المنطقة هي استراتيجية الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ عقد الثمانينيات في القرن المنصرم، ونجزم سلفاً أنّ الإدارة الأميركية لم تجرؤ إلى حد الآن على تبني خيار التواجد الدائم في سورية لاعتبارين، الأول عجزها عن تطويق المفاعيل السلبية لهذا الخيار وفي مقدمها التواجد الإيراني أيضاً شرق المتوسط كرد فعلٍ محتملٍ، وهو ما سيغير قواعد اللعبة الأمنية على كامل جغرافيا "الشرق الأوسط" وفي مقدمها "الأمن القومي الإسرائيلي" الذي ستتقوض أسسه، والثاني أنّ الولايات المتحدة غير قادرة على ضبط رد الفعل التركيّ الذي قد يرى في هذا الخيار تبنياً للمشروع الكردي في المنطقة وقد يقود تركيا الإخوانية إلى استخدام ورقة التنظيمات الإسلاموية المتطرفة ضد التواجد الأميركي في المنطقة" الكردية"، وفي مقابل هذا الجزم سنطرح التساؤل التالي، ما هي الخيارات الروسية المتاحة في حال قررت الإدارة الأميركية انطلاقاً من تكثيف وجودها في سورية مساومة ومقايضة روسيا على وجودها في شرق المتوسط في مقابل إنجاح مسار جينيف؟ سؤالٌ منطقيّ ولكنه قد يبدو خارج سياقه الزمني، يقول قائل، فعلى ما يبدو أنّ خطوط التماس الجيوبولتكي بدأت ترتسم على أرض الواقع انطلاقاً من شرق المتوسط وليس انتهاء ببحر الصين الجنوبي.. وهذا يتطلب منا قراءة شكل الحلول انطلاقاً من هذه النتيجة المفترضة.. وهذا الأمر يجعل من شكل الحل أمراً غير محسوم حتى في ذهنية الأطراف الرئيسية للأزمة، بانتظار حسم تلك الإجابات.

و أمام هذه الحسابات المعقدة للأطراف الخارجية للأزمة تظهر القيادة السورية هادئةً ومتوازنةً في حركتها السياسية، فخياراتها الكبرى والحاسمة لشكل الصراع وجذوره مازالت بيدها، والتي من المحتم أنّها ستغير الحسابات الأميركية والتركية ولكن في حينها، وهو ما يعقّد ويصعّب الحسابات الأميركية الجديدة التي تدرك فاعلية هذه الخيارات.