"قره باغ" وعلاقات موسكو ويريفان

29.04.2016

سلطت المواجهات المسلحة الأخيرة حول إقليم «ناغورني قره باغ» الأضواء مجددا على أحد النزاعات المُجمدة في الساحة السوفياتية السابقة. وبرغم الإعلان عن وقف إطلاق النار على امتداد خط التماس في الخامس من نيسان الجاري، إلا أن الوضع لا يزال متوترا بين أرمينيا وجمهورية «قره باغ» (المعلنة من طرف واحد) من جهة، وأذربيجان من جهة أخرى. فتجدد المواجهات المسلحة بين الجانبين هذه المرة كان الأخطر منذ إعلان الهدنة بينهما في عام 1994، ولذلك حاولت روسيا على الفور احتواء هذا التصعيد المسلح الخطير في منطقة تُوصف بأنها ضمن «الحديقة الخلفية» لها. يُذكر أنه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أعلن إقليم «قره باغ» الجبلي استقلاله وقيام جمهورية غير تابعة لأي من أرمينيا أو أذربيجان. واعتبرت باكو أن ما جرى كان باتفاق مسبق مع يريفان، ما أدى إلى اندلاع حرب بينهما عام 1992، خسرت خلالها أذربيجان ثماني مناطق تابعة لها استولى عليها الأرمن.
ترتبط موسكو مع يريفان بعلاقات، يصفُها الجانبان، بالاستراتيجية. فلدى روسيا قاعدة عسكرية كبيرة في منطقة غيومري الواقعة في غرب أرمينيا على الحدود مع تركيا. وجرى تمديد فترة وجود هذه القاعدة في الأراضي الأرمينية حتى عام 2044، بتوقيع اتفاقية جديدة بين البلدين في 2010. وتُعرف القاعدة العسكرية الروسية في أرمينيا بـ «القاعدة رقم 102»، وتعد من أهم المواقع العسكرية الروسية في منطقة ما وراء القوقاز. وتأسست هذه القاعدة في العام 1995، على أرضية ما تبقى من قوات سوفياتية في الأراضي الأرمينية. غير أنه في فترة التسعينيات من القرن الماضي، في عهد الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين، عانت هذه القاعدة من الإهمال الشديد على خلفية التدهور الاقتصادي الكبير في روسيا. ولكن مع وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة، جرى إحياء هذه القاعدة العسكرية الهامة ضمن منظومة روسية من القواعد العسكرية الأخرى في روسيا البيضاء وقيرغيزستان وطاجيكستان وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. وعلى المستوى الاقتصادي، تحتل روسيا المرتبة الأولى بين شركاء أرمينيا، وتلبي بالكامل احتياجات الجانب الأرميني من الغاز الطبيعي والوقود النووي بأسعار مخفضة، كما يتم تنفيذ مشاريع مشتركة بين البلدين في مجال نقل الغاز والسكك الحديدية والبنية الأساسية.
لا شك بأن أرمينيا تحتاج بشدة إلى روسيا في صراعها مع أذربيجان على إقليم «قره باغ»، علما أن الجانب الأذربيجاني يتهم القوات الروسية بمساعدة الأرمن في مطلع التسعينيات من القرن العشرين في السيطرة على هذا الإقليم واحتلال قسم آخر من الأراضي الأذربيجانية. أما روسيا، فتحاول من جانبها، منذ سنوات عديدة، العثور على حل سياسي لهذا النزاع، وذلك على أساس أنها تعد طرفاً في الوساطة الدولية ورئيساً مناوباً لمجموعة مينسك، الخاصة بتسوية النزاع تحت رعاية «منظمة الأمن والتعاون» في أوروبا. وتدرك موسكو أن اتساع الصدام المسلح بين أرمينيا وأذربيجان حول هذا الإقليم قد يتحول إلى مصدر تهديد للأمن القومي الروسي وأمن كل دول حوض بحر قزوين الغني بالغاز والنفط، والذي يشكل إحدى أكبر نقاط التنافس بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية.
في سياق احتواء النزاع، زار وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في الثاني والعشرين من نيسان الجاري العاصمة الأرمينية، حيث التقى الرئيس، سيرغ ساركسيان، ووزير الخارجية، إدوارد نالبانديان. وسربت وسائل إعلام روسية آنذاك أن لافروف يحمل معه عددا من الأفكار والمقترحات، قد تساعد على تحريك تسوية النزاع بين أرمينيا وأذربيجان بشأن إقليم «قره باغ»، المستمر منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي. ولم تُفصح موسكو الرسمية عن مضمون هذه المقترحات. ومع ذلك يجري التلميح إلى أن الأفكار التي حملها لافروف إلى يريفان تتضمن إرجاع أرمينيا إلى أذربيجان، في الأجل القصير، خمس مناطق من تلك المناطق، التي جرى الاستيلاء عليها خلال حرب مطلع التسعينيات بين الجانبين، مقابل رفع الحصار المفروض عليها عبر الحدود مع أذربيجان وتركيا. ويبدو أن هذا لا يروق لأرمينيا، التي تخشى أن تواصل أذربيجان الحرب مستقبلا بمساعدة تركيا. وتخشى كذلك أن يضع الضغط الروسي الرئيس الأرميني في مأزق كبير، وذلك في ظل الوضع السياسي والاقتصادي الداخلي الصعب. فموافقة الرئيس ساركسيان على مبادلة المناطق الخمس برفع الحصار الحدودي عن بلاده قد يدفن مستقبله السياسي، خاصة أنه من المنحدرين من اقليم «قره باغ».
نتيجة للتسريبات الإعلامية المشار إليها أعلاه، استقبلت الوزير الروسي أثناء زيارته للعاصمة الأرمينية تظاهرات احتجاجية مُنددة بموقف موسكو، الذي رأى فيه المحتجون نوعا من الضغط على القيادة الأرمينية. ورفع المحتجون، حسب موقع الصحيفة الروسية الالكترونية «غازيتا. رو»، لافتات كُتب عليها: «قره باغ أرضنا»، «أرمينيا دولة مستقلة». وطالب المحتجون أيضا بوقف مبيعات السلاح الروسي لأذربيجان. فمن المعروف أن روسيا وقعت مع أذربيجان خلال السنوات القليلة الأخيرة صفقات لبيع الأسلحة الروسية، بما فيها صواريخ الدفاع الجوي «إس ـ 300»، وهو ما سبب انزعاجا لأرمينيا. ولكن خبراء من روسيا يبررون مبيعات السلاح الروسي لأذربيجان وأرمينيا في آن واحد بضرورة الحفاظ على توازن القوى في تلك المنطقة من القوقاز. ويشير هؤلاء الخبراء كذلك إلى أن بيع روسيا أسلحة ومعدات عسكرية لأذربيجان له بعد اقتصادي، يتمثل في أن باكو قادرة على تسديد قيمة هذه الأسلحة.
في ظل انزعاج القيادة الأرمينية والشارع الأرميني، على حد تعبير وسائل إعلام روسية، مما يسمى بمقترحات موسكو لتخفيف حدة النزاع مع أذربيجان حول «قره باغ» في الأجل القصير، لا يستبعد البعض مرور العلاقات بين روسيا وأرمينيا بمرحلة من الفتور المُستتر في المستقبل، وذلك بعكس ما كانت عليه خلال السنوات الأخيرة. ولكن لن يؤدي هذا الفتور، في غالب الظن، إلى تمزيق العلاقات الاستراتيجية بين موسكو ويريفان.