عن الرعاية الروسية القيصرية لمؤسسة الحج الإسلامية

14.06.2016

تنوعت وتعمقت، في العقدين الأخيرين، حركة البحث التاريخي المعنية بسياسات روسيا القيصرية تجاه الأقوام المسلمة الذي ازدادت نسبتها وحيويتها في الفضاء الإمبراطوري الروسي كلما توسّع هذا الفضاء قدماً في آسيا الوسطى والقوقاز وحوض البحر الأسود، حتى صار عدد المسلمين في الامبراطورية الروسية مطلع القرن العشرين أكبر من عددهم في الامبراطورية العثمانية، بفارق عشرين مليون مسلم في الأولى وأربعة عشر مليون في الثانية.

ولعلّ كتاب المؤرخ ميخائيل خوداركوفسكي «الحدود السهبية لروسيا. بناء امبراطورية كولونيالية 1500 – 1800» (2002) من أفضل ما كتب في تأريخ آليات التحكم الموسكوبية ثم الروسية بالمجتمعات السهبية المسلمة، وتطوير تجربة كولونيالية غنية ومراكمة معرفة اثنوغرافية من قرن إلى قرن، وهي تجربة متصلة برّياً، و»عابرة نحو البحار»، في مقابل عن التجارب الكولونيالية الغربية «العابرة للبحار».

أما في المرحلة الممتدة من انشاء الامبراطورة يكاترينا الثانية لجمعية اورنبرغ للعلماء المحمديين حتى سقوط آل رومانوف، أي في تجربة قرن ونصف من «مأسسة الإسلام» وربطه بمؤسسات الدولة التي تنظر إلى قيصرها كرأس الأرثوذكسية، الدولة التي بقيت تمني النفس بـ»استعادة» القسطنطينية حتى سقوطها، فان كتاب روبرت كروس «من أجل النبي والقيصر: الاسلام والامبراطورية في روسيا وآسيا الوسطى» (الصادر عام 2006) احتل مكانته بجدارة على الساحة الأكاديمية ذات الصلة، لنجاحه في احلال مسألة الاسلام والمسلمين في المركز من عملية البناء الروسي للإمبراطورية.

الا ان مقاربة كروس ربطت مسارات مأسسة الاسلام ودمج علماء دينه بجهاز الدولة، بسياسات عزل مسلمي الامبراطورية الروسية عن المسلمين خارجها، وكاد هذا الربط أن يمرّ كمسلّمة في البحث التاريخي المعني بسياسات روسيا القيصرية ثم السوفييتية تجاه المسلمين، لولا الشغل الأرشيفي الممتع لمؤرخة شابة، ايلين كاين، تنقلت بين المحفوظات والمحفوظات من سانت بطرسبرغ واوديسا إلى تفليسي واسطنبول، ملاحقة قوافل الحجيج من وعبر روسيا القيصرية، ثم السوفييتية، إلى الحجاز، لتصل إلى مقاربة مختلفة نوعياً عن كروس.
فمأسسة الإسلام في روسيا القيصرية، وبدلاً من أن تترافق مع عزل المسلمين داخلها عن المسلمين خارجها، مرت على العكس من ذلك بتطور الرعاية الروسية الرسمية لمؤسسة الحج الاسلامية، بل أنها كانت واحدة من التداعيات غير المنظورة لهزيمة روسيا في حرب القرم منتصف القرن التاسع عشر، وما أعقب الهزيمة من مشاريع تحديث محمومة، قضت بانشاء شبكة هائلة من سكك الحديد، وتنمية الموانئ وتطوير أسطول مدني من السفن البخارية، وكل هذا جرى تجنيده لاقامة بنية تحتية للرعاية القيصرية للحج الاسلامي إلى الحرمين. وأضيفت فوقه مزايا الحماية الروسية لرعايا الامبراطورية الأرثوذكسية من المسلمين، بجوازات سفر خاصة بالحج، وبمتابعة طبية يومية أثناء التنقل، وبمواكبة من القناصل، لا سيما القنصلية الروسية في جدة.

جاءت ثمرة الشغل الأرشيفي المضني لايلين في كتاب مدهش، «الحج الروسي. الامبراطورية والحج إلى مكة» (2015)، وترجمته إلى العربية ضرورية ان لم يفكر فيها أحد بعد.

فبدلاً من أن تتحكم روسيا بمسلميها من طريق عزلهم، آثرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين العكس تماماً: رعاية مؤسسة الحج الاسلامية والحث على رفع عدد الحجاج، وتوسيع نفوذ روسيا بين مسلمي امبراطوريتها وبين مسلمي العالم على حد سواء، وخصوصاً مسلمي الصين وافغانستان والدولة العثمانية.

فالأبعاد العالمية للاسلام، على ما تظهره ايلين كاين، لم تكن مشكلة تسعى روسيا القيصرية للاحتراس منها، أو تفكيكها حيث استطاعت، على رغم كل الارتياب الحاصل في بيروقراطيتها وبين نخبها الثقافية والسياسية والأمنية من دعوات «الجامعة الاسلامية»، أو التضامن الاسلامي الأممي العابر للحدود.

سعت روسيا بدلا من ذلك للاستفادة من عالمية الاسلام، خصوصاً في ركنها بامتياز: موسم الحج. وبطبيعة الحال، لم تكن ردة فعل مسلمي الامبراطورية الروسية على هذه الرعاية القيصرية للحج واحدة: ففي حين كانت النخب المتصلة أكثر فأكثر بالدولة تبارك الاشراف الحثيث للقيصر وبلاطه وكبار رجال الدولة على طرق الحج البرية والبحرية واللوازم الطبية والقانونية والأمنية لاتمامه والعودة منه، وصولاً إلى تعيين مدير لشؤون الحج في الامبراطورية عام 1908، وهو سعيد عظيم باييف، من طشقند، وفي وقت وجد فيه حجاج كثيرون مهتمون بالدعاء للقيصر وأفراد السلالة الحاكمة، على ما تظهره مراسلاتهم المحفوظة، فقد وجد أيضاً من عبّر عن امتعاضه لكون طريق الحج البحرية من اوديسا إلى جدة نهاية القرن التاسع عشر، ومطلع العشرين، يسيطر عليها الروس الكفار، كحال عبد الرشيد ابراهيم أحد رواد التضامنية الاسلامية. فعندما وصل في رحلة حجه، إلى محطة الحجر الصحي في جزيرة كمران عام 1908، وكانت باشراف الأطباء والممرضين الروس، سأل محتجاً: «أليست هذه أرضا عثمانية؟» ولم يلق الجواب.

حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، ظلت الرعاية القيصرية لمؤسسة الحج الاسلامي تتوسع، وبنيتها التحتية تفوق كماً ونوعاً الرعاية القيصرية لحج المسيحيين إلى الأراضي المقدسة، وكان ذلك من أسباب تشنج الكنيسة الأرثوذكسية الروسية من تبني الدولة لشعيرة اسلامية أساسية بهذا الشكل، دون طائل.

لم تكن روسيا القيصرية لوحدها في عملية الوصاية غير المسلمة على طرق الحج وأحواله، في عصر هيمنت فيه الدول الاوروبية الغربية استعمارياً على معظم مسلمي العالم، لكن الرعاية الروسية كانت «داخلية وخارجية في آن»، ومحكا أساسيا للتعايش بين طبيعة الامبراطورية المتعددة دينياً واثنياً وبين أرثوذكسيتها المحركة للنوستالجيا البيزنطية على نحو امبريالي.

وحتى في الزمن السوفييتي، لم تحدث قطيعة شاملة مع هذه الرعاية القيصرية للحج الاسلامي، وان مرت بتعقيدات ومنعطفات، ليبقى الحج الاسلامي محورياً في علاقة روسيا المعاصرة بمسلميها، وبمسلمي العالم، وبالمملكة العربية السعودية.

في أواخر القرن التاسع عشر، وصلت بعض المخاوف إلى درجة الهلع من احتمال تحول مكة إلى بؤرة ثورية اسلامية من طريق اتصال الحجيج القادمين من مختلف ديار الاسلام ببعضهم البعض، لكن المؤرخة تستند إلى الداعية عبد الرشيد ابراهيم نفسه، وهو تتاري مولود في سيبيريا، المحبط من عدم مبالاة الحجاج الذين صادفهم في مكة، بالسياسة والجهاد ووحدة المسلمين، لتخلص من ثم إلى أن الموظفين الروس الأكثر تفاؤلاً لجهة رعاية الحج كانوا في كل المراحل على حق، وليس اولئك الذين سيطر عليهم «رهاب الجامعة الاسلامية» او «رهاب الاسلام».

ثمة تراث روسي لرعاية الحج بات يمتد إلى قرن ونصف إلى الوراء. تراث مدمج بسياسات امبراطورية وامبريالية اعتمدتها روسيا تجاه المسلمين، ومتفلت في نفس الوقت من الاسلاموفوبيا، وان كان تفلتاً «فوقياً» في مناحي كثيرة منه. يبقى أنه تراث مشارك بحيوية في صناعة الصورة العالمية والمعاصرة للاسلام، وليس فقط في صناعة صورة الاسلام والمسلمين ضمن الحدود الروسية. والاسلام من دون ركنه المتحرك في المكان عبر العالم، براً وبحراً ثم جواً، نحو المركز، أي الحج إلى البيت، ليس الاسلام. والتجربة الروسية لم تكن فعلاً «أوراسية المدى» بشكل ملموس، ودوري، ومنهجي، بالقدر الذي كانت عليه، فيما كانت تدغدغها أحلام «استعادة القسطنطينية» للحضن الأرثوذكسي، بإشرافها على هذا الركن من الدين الاسلامي، وتبنيه، وتجنيد قدراتها له، والنفاذ من خلاله لتأثير أكبر في العالم الإسلامي، وتغلغل أعمق في الدولة العثمانية.

جريدة "القدس العربي"