هل يؤدي فوز ترامب إلى اندلاع العنف في الولايات المتحدة؟
يرى المحافظون التقليديون الأميركيون أن الدولة العميقة، في جناحيها اليساري واليميني، هي في حقيقتها تعتمد الأيديولوجيا الليبرالية المعولمة، التي تعمل لمصلحة الرأسمالي العالمي على حساب الرأسمالية الوطنية،
بناءً على تجربتنا في الشرق الأوسط وحتى العالم مع الانتخابات الأميركية، فإن من غير المرجح ان تتباين السياسة الأميركية الخارجية بعد فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب وعودته إلى البيت الأبيض عن تلك التي سادت في ظل إدارة الرئيس جو بايدن. لكن، قد يكون لفوز ترامب تأثير في الوضع الداخلي في الولايات المتحدة، وخصوصاً لجهة ما يحكى عن علاقة ترامب السيئة بالدولة العميقة الأميركية.
اصطدام ترامب بالدولة العميقة
يَعُدّ الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين أن مصطلح “الدولة العميقة” ظهر في خطابات الصحافيين والمحللين والسياسيين في الولايات المتحدة في أثناء رئاسة دونالد ترامب الأولى بين عامي 2017 و2021، بحيث بدأ أنصار ترامب، مثل ستيف بانون وآخرين، يتحدثون عن كيف واجه ترامب، بصفته رئيساً للولايات المتحدة، عقبات في إدارة سياستي الدولة الخارجية والداخلية من جانب قوى ومصالح غير منظورة في الولايات المتحدة.
هذا جعل ترامب وأنصاره ينظرون إلى أنفسهم ليس فقط كممثلين لأجندة الجمهوريين، لكن كمدافعين عن أميركا وهويتها ومصالحها. وأثار تركيزهم على القيم التقليدية وانتقاد الأجندة العالمية وتراً حساساً ليس فقط لدى خصومهم السياسيين المباشرين، “التقدميين” والحزب الديمقراطي، بل أيضاً لدى كيان غير مرئي وغير دستوري، قادر على التأثير في جميع العمليات الرئيسة في السياسة الأمير1كية – التمويل، والشركات الكبرى، ووسائل الإعلام، ووكالات الاستخبارات، والقضاء، والمؤسسات الثقافية الرئيسة، والمؤسسات التعليمية العليا، وما إلى ذلك ــ بطريقة منسقة وخفية.
وتبين أنه كانت هناك عمليات لا يمكن السيطرة عليها على مستوى أعلى من “القوة الخفية”، الأمر الذي أدى إلى كشف حقيقة وجود دولة عميقة داخل الولايات المتحدة نفسها. ويَعُدّ دوغين أنه يوجد في الولايات المتحدة كيان عسكري سياسي غير منتخب، مقيَّد بأيديولوجيا محدَّدة عابرة للأحزاب، تدير الولايات المتحدة من خلف الستار.
ويقسم دوغين الدولة العميقة في الولايات المتحدة إلى جناحين، يساري متمثل بمجلس العلاقات الخارجية، ويميني متمثل بالمحافظين الجدد. وبالنسبة إلى مجلس العلاقات الخارجية، فلقد أسسه في عشرينيات القرن العشرين أنصار الرئيس وودرو ويلسون، المدافع المتحمس عن العولمة الديمقراطية.
أما حركة المحافظين الجدد الأميركيين، والتي ظهرت لاحقاً، والتي خرجت من الوسط التروتسكي، فاكتسبت بالتدريج نفوذاً كبيراً في الولايات المتحدة. والجدير ذكره أن مجلس العلاقات الخارجية والمحافظين الجدد مستقلون عن أي حزب واحد. ويكمن هدف الطرفين في توجيه المسار الاستراتيجي للسياسة الأميركية ككل، بغض النظر عن الحزب الذي في السلطة في أي وقت معين. علاوة على ذلك، يمتلك كلا الكيانين أيديولوجيات منظمة جيداً وواضحة: العولمة الليبرالية اليسارية في حالة مجلس العلاقات الخارجية والهيمنة الأميركية الحازمة في حالة المحافظين الجدد. يمكن عدّ مجلس العلاقات الخارجية العولميين جناح اليساريين، والمحافظين الجدد العولميين جناح اليمينيين.
دور الدولة العميقة وهويتها
منذ نشأته، وضع مجلس العلاقات الخارجية نصب عينيه تحويل الولايات المتحدة من دولة قومية إلى “إمبراطورية” ديمقراطية عالمية. وفي مواجهة الانعزاليين، طرح مجلس العلاقات الخارجية أطروحة مفادها أن الولايات المتحدة مقدر لها أن تجعل العالم بأسره ليبرالياً وديمقراطياً. ووضعت مُثُل الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية والفردية وقيمها فوق المصالح الوطنية.
وعلى مدار القرن العشرين ــ باستثناء فترة انقطاع قصيرة في أثناء الحرب العالمية الثانية عملت هذه الشبكة، من الساسة والخبراء والمثقفين وممثلي الشركات العابرة للحدود الوطنية، على إنشاء منظمات فوق وطنية: أولاً عصبة الأمم، ثم الأمم المتحدة، ونادي بيلدربيرج، واللجنة الثلاثية، وما إلى ذلك. وكانت مهمة هؤلاء إنشاء نخبة ليبرالية عالمية موحدة تتقاسم أيديولوجية العولمة في جميع الجوانب: الفلسفة والثقافة والعلم والاقتصاد والسياسة، وغير ذلك الكثير.
كانت أنشطة العولميين داخل مجلس العلاقات الخارجية تهدف إلى إنشاء حكومة عالمية، الأمر الذي يعني التلاشي التدريجي للدول القومية، ونقل السلطة من الكيانات ذات السيادة السابقة إلى أيدي الأوليغارشية العالمية، المكونة من النخب الليبرالية في العالم، والمدربة وفقاً للنماذج الغربية.
ومن خلال شبكاته الأوروبية، أدى مجلس العلاقات الخارجية دوراً نشطاً في إنشاء الاتحاد الأوروبي (وهي خطوة ملموسة نحو حكومة عالمية). وأدى ممثلوه ــ وخصوصاً هنري كيسنجر، الزعيم الفكري الدائم للمنظمة ــ دوراً رئيساً في دمج الصين في السوق العالمية، وهي خطوة فعّالة لإضعاف الكتلة الاشتراكية. كما عمل مجلس العلاقات الخارجية بنشاط على ترويج نظرية التقارب، وتمكن من ممارسة النفوذ على القيادة السوفياتية الراحلة، بما في ذلك غورباتشوف. وتحت تأثير الاستراتيجيات الجيوسياسية لمجلس العلاقات الخارجية، كتب الأيديولوجيون السوفيات الراحلون عن “قابلية المجتمع العالمي للحكم”.
إن مجلس العلاقات الخارجية في الولايات المتحدة غير حزبي تماماً، ويضم الديمقراطيين، الذين يعدّهم أقرب، إلى حد ما، والجمهوريين. وفي جوهره، يعمل المجلس كهيئة عامة للعولمة، مع مبادرات أوروبية مماثلة ــ مثل منتدى دافوس الذي أسسه كلاوس شواب ــ تعمل بمنزلة فروع له. وعشية انهيار الاتحاد السوفياتي، أنشأ مجلس العلاقات الخارجية فرعاً في موسكو في معهد الدراسات النظامية تحت إشراف الأكاديمي جفيشاني، الذي انبثقت منه نواة الليبراليين في روسيا في تسعينيات القرن العشرين والموجة الأولى من الأوليغارشيين المدفوعين أيديولوجياً.
ترامب ممثلاً للقيم المحافظة الحقيقية
ويرى دوغين أن ترامب واجه هذا الكيان بالتحديد، والذي تم تقديمه في الولايات المتحدة والعالم كونه منصة غير ضارة ومرموقة لتبادل الآراء بين الخبراء “المستقلين”. لقد دخل ترامب، بأجندته المحافظة القديمة، وتأكيده المصالح الأميركية، وانتقاده للعولمة، في صراع مباشر ومفتوح معه. ربما كان ترامب رئيساً للولايات المتحدة لفترة وجيزة، لكن مجلس العلاقات الخارجية لديه تاريخ طويل في تحديد اتجاه السياسة الخارجية الأميركية.
وبطبيعة الحال، على مدار مئة عام في السلطة وحولها، شكل مجلس العلاقات الخارجية شبكة واسعة من النفوذ، ونشر أفكاره بين العسكريين والمسؤولين والشخصيات الثقافية والفنانين، لكن في المقام الأول في الجامعات الأميركية، التي أصبحت أيديولوجية بصورة متزايدة بمرور الوقت. رسمياً، لا تعترف الولايات المتحدة بأي هيمنة أيديولوجية. لكن شبكة مجلس العلاقات الخارجية أيديولوجية للغاية. انتصار الديمقراطية الكوكبي، وإنشاء حكومة عالمية، والانتصار الكامل للفردية وسياسات النوع الاجتماعي، هذه هي الأهداف العليا، والتي لا يجوز الانحراف عنها. ويرى دوغين أن قومية ترامب، وأجندته “أميركا أولا”، وتهديداته بـ”تجفيف المستنقع العالمي”، مثلت تحدياً مباشراً لهذا الكيان، حارس قواعد الليبرالية الشمولية.
ويرى دوغين أن الأمور تغيرت مع ترامب، وخصوصاً بعد مواجهته للمحافظين الجدد، الأمر الذي جعل المحافظين التقليديين يميزون سياساتهم من المحافظين الجدد، ويدخلون في صدام معهم، مجبرين إياهم على إظهار مواقفهم الحقيقية عبر الانحياز إلى المرشحين الديمقراطيين/العولميين، مثل جو بايدن وكامالا هاريس.
لقد شكل ذلك مقدمة للعودة إلى فلسفة محافظة حقيقية، وإعادة الاعتبار لمفهوم الحكومة المحدودة، ونهاية الإنفاق بالديون، والمال السليم، وإزالة المنظمات غير الحكومية النخبوية من النفوذ السياسي، والموقف المتشدد ضد العولمة، والأمن الشرعي عند الحدود، والجدارة، ورفض التفكيك التقدمي والنسبية الأخلاقية، كل هذه الأشياء تشكل مبادئ محافظة أساسية. وبالنسبة إلى دوغين، كانت هذه الحركة تنمو قبل صعود نجم ترامب.
ويرى المحافظون التقليديون الأميركيون أن الدولة العميقة، في جناحيها اليساري واليميني، هي في حقيقتها تعتمد الأيديولوجيا الليبرالية المعولمة، التي تعمل لمصلحة الرأسمالي العالمي على حساب الرأسمالية الوطنية، وهم يَعُدّون أن الشيطان يتمثل اليوم بهيئة اليسار السياسي المتطرف.
وهم يرون في ترامب محاولة لتصحيح المسار الذي انحرف في الولايات المتحدة، كما يرون فيه مسعى لعودة الحزب الجمهوري إلى قيمه التقليدية المحافظة الحقيقية، على الرغم من النقد الذي يسوقونه بحقه. وهم يرون فيه تجسيداً للقيم التي يؤمنون بها لجهة تأمين الحدود، وترحيل المهاجرين غير الشرعيين، وتقليص دور الحكومة، وإنهاء المشاركة الأميركية في حرب أوكرانيا، وإنهاء عمليات تحويل الأطفال جنسياً.
المصدر: الميادين