الهدنة السورية زواج بالإكراه
الذين عايشوا الحرب اللبنانية يدركون أكثر من غيرهم معنى المصطلحات العسكرية. فكلمات كالهدنة أو وقف إطلاق النار أو فك الحصار أو معابر سالكة، لا قيمة لها ما لم تترجم في الميدان باختراق، يرسم معالم النصر. في لبنان لم تنتهِ الحرب برغم مرور خمسة عشر عاماً دموية، إلا بعد تحوّل إقليمي ودولي أعطى سوريا أفضلية صياغة التسوية اللبنانية، ومنحها ما يشبه حق الانتداب على البلد الذي بقي قاصراً عن حكم نفسه برغم أنه أول دولة مستعمَرة تنال استقلالها عن سلطة انتداب في آسيا وأفريقيا، وكان ذلك خلال احتدام الحرب العالمية الثانية.
وكما حصل في لبنان قبل عقود، يحصل في سوريا اليوم. حرب متواصلة مع مساعٍ دولية شفهية لوقفها ليس إلا. الهدنة التي رعتها روسيا والولايات المتحدة تترنح، بل تسقط بالنقاط. تم إحصاء أكثر من ثلاثمئة خرق لوقف إطلاق النار في أسبوع، اختتم بمذبحة قضى فيها ثمانون جندياً سوريا كانوا على الخطوط الاولى في مواجهة «داعش». المذبحة خطأ اعتذرت عنه واشنطن بغرور وصلف شديدين، وصل إلى حد لوم القتيل على موته.
منذ اليوم الأول للهدنة لم يتوقع أحد لها طول السلامة. أسباب انهيارها ذاتية وعامة. ومع ذلك كانت ضرورية للجميع. فوضى الجبهات السورية وتداخلها فرض على رعاة الحرب الدوليين وقتاً مستقطعاً يخفت خلاله صوت السلاح، مع استحالة تسجيل خرق على الأرض، برغم ضخامة الحشود المشاركة بالعمليات العسكرية، بدءاً من التحالف الذي تقوده واشنطن المؤلف من عشرات الدول، إلى الانخراط الروسي الجوي والبري في الوحول السورية، إلى الاجتياح التركي الذي يواصل قضم الكيلومترات المربعة مع تأكيد أنقرة المتكرر ضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية. ومن دون أن ننسى طبعاً عشرات الآلاف من الارهابيين الهاربين من العصور الحجرية حول العالم إلى سوريا لإعادتها إلى ما قبل التاريخ.
الحشد العسكري هذا يجعل من شبه المستحيل أن تتحول الحرب السورية إلى حرب باردة أو حرب مواقع ثابتة. وحصول أي اختراق يرتب نتائج ومضاعفات تنذر بانتقال الدول الكبرى إلى مواجهات مباشرة في ما بينها، تضع حداً للهدوء النسبي الذي يعيشه العالم منذ نهاية الحرب الثانية. لذا كان لا بد من هدنة ولو لم تنضج ظروفها، ولو ولدت مشوهة.
لاستمرار الحرب على سوريا مريدون كثر، لائحة طويلة تبدأ بإسرائيل وحلفائها، وتمر بأكثر من عاصمة عربية وإقليمية. لكن هذه الحرب بدأت تخرج عن سيطرة مشغليها. الإرهاب المتنقل فاجأ الجميع، وأزمة النازحين أدمت الضمير الدولي ومعايير قبوله للآخر وقدرته على التسامح والمناصرة. أصبحت شعارات التضامن عبئاً على رافعيها في مواجهة التحديات الأمنية والمعيشية المستجدة. كما أكدت أعوام الحرب الستة عدم وجود بديل لدولة سورية مركزية قوية، مع تناقض التعريفات لمكون هذه الدولة ونظامها.
باتت هدنة لافروف - كيري، مخرجاً وحيداً. باراك أوباما جف حلقه من كثرة المطالبة بالحل السياسي. ووزير خارجيته يتحدث عن «انعدام الخيارات» في معرض تبريره لاستمرار الهدنة. يبدو أن مخيلة الدول الكبرى في أسوأ أيامها، وهي عاجزة عن ابتكار الحلول... والكوارث. ربما انعدام البدائل فرصة لهدنة طويلة قد يليها حل شامل.
منير الخطيب - "السفير"