الفلبين بين واشنطن وبكين
فاجأت الصين كلاً من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وفاجأت حتى اليابان وكوريا، عندما أحجمت عن بناء القواعد العسكرية في المنطقة البحرية المتنازع عليها مع الفيليبين. أساس المفاجأة هو أن بكين أقامت قواعد عسكرية في سائر المناطق الأخرى التي اعتبرتها جزءاً من سيادتها الوطنية في بحر الصين.
وبرغم أن الفيليبين هي التي رفعت الشكوى أمام محكمة العدل الدولية في جنيف وربحتها، فإنها توقفت عن المطالبة بسيادتها على منطقة سكاربورو التي تبعد عن شواطئها 200 كيلومتر فقط، فيما هي تبعد عن شواطئ الصين 900 كيلومتر.
وبدلاً من المطالبة بتطبيق قرار المحكمة الدولية، فاجأ الرئيس الفيليبيني ديوتيرت حلفاء بلاده التقليديين وفي مقدّمتهم الولايات المتحدة بالتوجه إلى بكين، حيث جرى له استقبال رسمي حافل.
تريد الفيليبين من الصين التعاون معها لتحقيق أربعة أهداف أساسية. الهدف الأول هو تطوير البنية التحتية وخاصة في قطاع السكك الحديدية لربط الشمال بالجنوب. ولقد تعهّدت الصين بتقديم تسهيلات مشجّعة جداً وقروضاً ميسّرة وطويلة الأجل، كما تعهدت بتقديم خبراتها الفنية وآلياتها الحديثة لتحقيق هذا المشروع الكبير.
وتريد الفيليبين ثانياً تأمين أسواق لمنتجاتها المحلية، خاصة الزراعية منها. وقد تعهدت الصين (مليار وربع المليار إنسان) بفتح أسواقها أمام المنتجات الفيليبينية وخاصة من الفواكه.
وتريد الفيليبين ثالثاً مساعدة الصين لاحتواء ظاهرة انتشار الإدمان على المخدرات. إن أسلوب قتل المدمنين وتجار المخدرات وإلقائهم في البحر طعاماً للسمك كما فعل ذلك الرئيس الفيليبيني ليس كافياً، بل لا يمكن أن يكون كافياً. وبدلاً من القتل (قتل منذ انتخاب الرئيس أكثر من ستة آلاف شخص تحت عنوان مكافحة المخدرات)، فإن الفيليبين تحتاج إلى مراكز لتأهيل المدمنين ولمساعدتهم على الشفاء من مرض الإدمان.
وهنا أبدت الصين استعدادها لبناء مركز طبي خاص ومتخصص بالمعالجة، وسيكون المركز الأول من نوعه في مانيلا العاصمة بتبرّع من أحد الأثرياء الصينيين.
وتريد الفيليبين أخيراً السماح للصيادين باستئناف عملهم في خليج سكاربورو الذي سيطرت عليه الصين. وهنا تتضح رسالة الصين بعدم إقامة قواعد عسكرية في الخليج.. مما يعني أنها ستبقيه مفتوحاً امام الصيادين الفيليبينيين.
يشكل هذا التطور الجديد في العلاقات بين بكين ومانيلا صدمة قوية للولايات المتحدة التي لا تزال تحتفظ حتى الآن بخمس قواعد عسكرية في الفيليبين. غير أن الرئيس ديوتيرت الذي وصف الرئيس الأميركي باراك أوباما بأنه «ابن عاهرة»، يحتفظ في نفسه بذكرى شخصية مؤلمة. فقد تعرّض للاعتداء الجنسي وهو صبي يافع من أحد الكهنة الأميركيين. أما على الصعيد الوطني فإن الرئيس الفيليبيني يذكر ـ مع الكثيرين غيره ـ مقولة أحد الجنرالات الأميركيين أثناء احتلال الفيليبين، والتي وصف فيها الشعب الفيليبيني بالتخلّف الشديد، حتى أنه قال: «من الضروري قتل نصف الشعب الفيليبيني حتى يتمكّن النصف الباقي من التطور والتقدم»..
وخلال هذه الفترة ارتكبت القوات الأميركية بالفعل سلسلة من المجازر في جنوب البلاد (مانداناو) وفي شمالها (مانيلا) وسقط الآلاف من الضحايا على مدى سنوات من التمرّد ضد الاحتلال الأميركي حتى استتب الأمر أخيراً للقوات الأميركية.
من هنا السؤال: هل يستطيع ـ أو على الأقل هل يرغب ـ الرئيس الفيليبيني ديوتيرت أن ينقل بلاده من الهيمنة الأميركية أو من الحضن الأميركي إلى الحضن الصيني؟ وهل يستطيع أن يجابه رد الفعل الأميركي إزاء هذا التحول الاستراتيجي الخطير؟ وماذا عن دول المنطقة الأخرى في شرق آسيا، وخاصة اليابان التي فشلت في إقامة علاقات سليمة مع الصين تتجاوز معها ذكريات مجازر الحرب العالمية الثانية وما قبلها؟
لا شك في أن كل ما تقدّمه الصين من تسهيلات ومساعدات للفيليبين من أجل تشجيعها على هذا التحول يبقى زهيداً إذا ما قورن بالمكاسب الاستراتيجية التي سوف تحققها إذا دارت الفيليبين دورتها الكاملة.
ولكن دون هذه الاستدارة عقبات يصعب تجاوزها: أولها وجود القواعد العسكرية الأميركية.. وثانيها وجود قوى عسكرية وسياسية فيليبينية مرتبطة بهذه القواعد وبالسياسة الأميركية في المنطقة. وهو أمر يحسب له الرئيس ديوتيرت ألف حساب.
يقول الرئيس الفيليبيني إن أحد أجداده يتحدر من أصول صينية، وبالتالي فإن دماً صينياً يجري في عروقه. وهكذا بين حادثة الاعتداء الجنسي التي تركت عقدة في نفسية ديوتيرت (والتي تلازمه حتى اليوم، وإلا لما تحدث عنها) وبين الدم الصيني الذي ورثه عن جده (والذي يفاخر به وإلا لما تحدث عنه أيضاً).. يبقى مصير الفيليبين معلقاً بين واشطن وبكين!
محمد السماك – "السفير"