بكين وواشنطن والغرق في بحر الصين الجنوبي
يُعتبر الحضور القوي للديبلوماسية الأميركية المقرونة بتحرك عسكري، من الحلقة الأحدث في مجمل السياسة الأميركية تجاه النزاعات المتشعبة في بحر الصين الجنوبي. ويُعيد المراقبون هذا الحضور الى أهداف عديدة تسعى الإدارة الأميركية الى تحقيقها. فالولايات المتحدة كقوة عظمى لها مصالح متشعبة في بحر الصين الجنوبي٬ ترتبط بطبيعة الحال بالدول المشاطئة لذلك البحر.
ويمكن تلخيص هذه المصالح الاستراتيجية على الشكل التالي: ضمان استمرارالتفوق العسكري عبر تكثيف الوجود، والتصدي لتمدد القوة الصينية التي تمثل المنافس الدولي الأول لها، والمحافظة على حرية الملاحة لأساطيلها وأساطيل حلفائها٬ ورصد التطورات الخاصة بتوسع عمل القوات الصينية خارج محيطها الإقليمي، كما حدث في المناورات الأولى للبحرية الصينية مع نظيرتها الروسية في البحر المتوسط في أيار العام 2015 فضلاً عن البوادر الخاصة بالسعي الصيني لإقامة قواعد عسكرية في الخارج.
وقد تقدمت الفيليبين بشكوى أمام محكمة لاهاي لبت النزاع القائم بينها وبين الصين التي تدعي امتلاكها «حقوقاً تاريخية» على القسم الأكبر من مياه هذا البحر٬ الذي يُعتبر ممراً مائياً استراتيجياً تعبره ثلث تجارة النفط العالمية. علماً أن الصين نفذت أعمال توسيع في جزر أو أرصفة وبنت عليها مدارج هبوط ومرافئ ومنشآت أخرى. وقد صدر حكم هذه الهيئة في 12 تموز الماضي مؤيداً موقف الفيليبين، وجاء فيه أن الهيئة ترى أن «لا أساس قانونياً لمطالبة الصين بحقوق تاريخية على الموارد في المناطق البحرية داخل خط النقاط التسع» الذي تستند الصين إليه في مطالبها، وهو وارد في خرائط تعود الى أربعينيات القرن الماضي.
وقد رحبت الفيليبين بالقرار. كذلك فعل الأميركيون الذين يبحثون عن منافذ دائمة لتعزيز حضورهم العسكري والسياسي والاقتصادي في الشرق الآسيوي٬ خصوصاً في الجوار الصيني. أما بكين فقد ردت بغضب على قرار المحكمة وأكدت أنها لن تعترف أو تلتزم به.
ويزعم الصينيون أن الحكم يحوي ثغرات وتحايلات متعمدة على قواعد التحكيم النظامية ويتهمون المحكمة بضرب مثال سيئ لتسوية النزاعات. علماً أن بكين ترى أن القرار هذا قد يشجع تايوان وفيتنام وماليزيا وبروناي ـ وهي جميعها دول مشاطئة ـ إلى اللجوء إلى المحكمة بغية الحصول على أحكام مماثلة.
وقد سعى القطبان، الصيني والأميركي٬ إلى الحصول على دعم سياسي من أطراف خارجية لا علاقة لها ببحر الصين الجنوبي. فحصلت الصين على تأييد كل من أنغولا ومدغشقر وبابوا غينيا الجديدة مثلاً. ولم تكتفِ بكين بالحشد العسكري٬ بل عمدت إلى تأمين وجود مدني في المنطقة كبناء المدارس وتدشين المحطات الكهربائية وافتتاح المستشفيات وتقديم المساعدات المالية لمواطنيها لتثبيت وجودهم الدائم في الجزر الصغيرة المتنازع عليها. كما عززت السياحة في المنطقة عبر تنظيم رحلات بحرية سياحية من جزيرة «هينان» الواقعة في أقصى جنوب الصين.
من التداعيات التي برزت جراء هذا الوضع المتوتر كان الموقف الذي اتخذته موسكو لناحية وقوفها على الحياد٬ خاصة في النزاع بين بكين وواشنطن. ويرى مراقبون أن النزاعات الإقليمية في هذا البحر بين الصين وجيرانها تشكل تحدياً خطيراً للسياسة الروسية في جنوب شرق آسيا. وإلى اليوم تلتزم روسيا رسمياً الحياد الصارم إزاء هذه الأزمة، في حين تحتاج منظمة «آسيان» إلى دور روسي في المنطقة مؤيد لمطالب الدول المشاطئة٬ حتى تصبح الصين في مواجهة الجميع. إلا أن موسكو غير مستعدة للمشاركة بفعالية في العمليات الإقليمية، وهي ترى أن مصالحها في الحفاظ على شراكاتها الإستراتيجية في المنطقة. أما الدول المشاطئة فهي تميل، بطبيعة الحال، إلى الطرف الاميركي الذي ترى فيه القادر على التصدي للجمهورية الصينية، وكبح سيطرتها على بحر الصين الجنوبي وثرواته الطبيعية ممثلة بالبترول والأسماك.
وقد استطاعت واشنطن تأمين موقف مساند من أستراليا٬ أكبر حليف لها في المنطقة. فحكومة الأخيرة أعلنت على لسان وزيرة خارجيتها جولي بيشوب أن الحكم بعدم أحقية بكين في استغلال موارد بحر الصين الجنوبي «نهائي وملزم». ونقلت شبكة «إيه بي سي» الأميركية عن بيشوب دعوتها كلاً من الصين والفيليبين الى احترام القرار والتواصل البناء من أجل حل خلافاتهما. ولم تكتفِ أستراليا بهذا الانحياز الى الجانب الأميركي في النزاع القائم، بل ضاعفت موازنة الدفاع خلال السنوات العشر القادمة. فالموازنة الدفاعية لعام 2015 ــ 2016 كانت بحدود 32 مليار دولار، في حين ستصبح للسنة المالية 2016 ــ 2017 بحدود 58 مليار دولار. وفي 25 شباط الماضي نشرت الحكومة الأسترالية «الكتاب الابيض حول الدفاع»٬ الذي اشتمل على تفاصيل الاستثمارات القادمة، والغالب فيها الطابع الدفاعي ورؤيتها الجيوسياسية. ففي السنوات العشرين القادمة، كما نقرأ في الكتاب، ستتميز منطقة الهند ـ الهادئ بقدر كبير من العسكرة. إذ إن نصف الغواصات والطائرات القتالية في العالم ستتواجد في المنطقة. فيما أستراليا ستهتم بسلاحها البحري الذي عرف تجديداً لم يحصل منذ الحرب العالمية الثانية، علماً أن رئيس الوزراء الأسترالي مالكولم تونبل قال إن بلده سيتسلم 12 غواصة جديدة، يبلغ ثمنها 50 مليار دولار تقريباً٬ وستبدأ بالعمل في العام 2030. وبرغم أن أستراليا هي الشريك التجاري الأول للصين حيث تصدر إليها المواد الاولية، فإن بكين أظهرت تحسساً من كانبيرا التي أدانت تصرفاتها في بحر الصين الجنوبي وعارضت الإنشاءات التي أقامتها الصين في المنطقة.
نشرت للمرة الأولى في "السفير"