هل ستغادر تركيا «حلف الأطلسي» فعلاً؟
بكل تأكيد دخلت العلاقات التركية الروسية مرحلةً مختلفةً، وإن لم تكن جديدةً تماماً. أعقب المصالحة، التي أُنجزت بسرعة لافتة، لقاءٌ بين زعيمي البلدين، لم يكن الفتور من سماته أبداً، فحتى الأطباق على مأدبة الغداء في سان بطرسبرغ رُسم عليها الرجلان وهما يتصافحان. تزامنُ هذه الأحداث مع تأزم العلاقات التركية الأميركية، والتركية الغربية عموماً، في أعقاب الانقلاب العسكري الفاشل، جعل طرح السؤال التالي ممكناً: هل ستغادر تركيا «حلف الأطلسي» لتتحالف مع روسيا؟ البرود «الأطلسي» في التعامل مع هذا السيناريو يستحقّ الوقوف عنده، بل ربما يشكل بداية الوصول إلى إجابة.
من الناحية التاريخية، ليست هذه هي المرة الأولى التي تستدير فيها أنقرة نحو موسكو. ولو تجاوزنا الدعم السوفياتي الحيوي لمصطفى كمال أتاتورك في عشرينيات القرن الماضي، لوجدنا أمثلة أخرى كثيرة. عدنان مندريس، رئيس الوزراء التركي الأشهر، حاول في خمسينيات القرن الماضي التقرب من موسكو ضمن محاولته الضغط على الولايات المتحدة للحصول على المزيد من المساعدات الاقتصادية. وبعد عقدين من الزمن، تقرّب بولنت أجاويد، رئيس الوزراء التركي، من موسكو مدفوعاً أيضاً بعوامل اقتصادية وبالأزمة الناشئة مع «الأطلسي» بسبب الغزو التركي لقبرص 1974. وبعد نهاية الحرب الباردة، وسقوط الاتحاد السوفياتي، زار الرئيس التركي سليمان ديميريل موسكو ووقع معاهدة تعاون وصداقة وحسن جوار، إضافةً إلى اتفاقات اقتصادية كبيرة. أما الفترة الأكثر حميميةً، والأطول، في العلاقات التركية ـ الروسية، فقد كانت مع وصول حزب «العدالة والتنمية» إلى الحكم في تركيا. ولكن تركيا، طوال هذه الفترة، بقيت ملتزمةً بكل ما تفرضه عليها عضويتها في «الأطلسي»، وساهمت في كل المخططات الأميركية التي استهدفت الاتحاد السوفياتي، بدءاً بنشر صواريخ نووية أميركية في تركيا، والسماح للأميركيين باستخدام الأراضي التركية للتجسّس على الاتحاد السوفياتي، وصولاً إلى تقديم السلاح «للمجاهدين الأفغان». باختصار، كانت تركيا خط المواجهة «الأطلسي» الأول مع الاتحاد السوفياتي. كما كان لتركيا أيضاً نشاطاتها المعادية لروسيا، سواء من خلال دعم العناصر الشيشانية المناوئة لروسيا أو المساعي التركية لتوطيد العلاقات مع الدول الناطقة بالتركية جنوب روسيا، وهي المساعي التي طالما نظرت إليها موسكو بكثير من القلق.
لا بد إذاً من التساؤل: إذا كانت أنقرة، طوال العقود الماضية وإلى اليوم، تابعاً مخلصاً لواشنطن ولـ «الأطلسي» في كل مخططات الاثنين المعادية لموسكو، فلماذا طرقت باب موسكو غير مرة؟ السؤال يحمل الجواب نوعاً ما. الشكوى الرئيسية لدى الأتراك هي شعورهم أنهم مجرد تابع يُنتظر منه أن ينفذ أدواراً معينة من دون أن تؤخذ احتياجاته الخاصة، الاقتصادية والأمنية والتقنية، بعين الاعتبار. في كل مرة تقرّبت أنقرة من موسكو كانت تفعل ذلك مضطرةً، غالباً لأسباب اقتصادية، كما كان الحال في الأمثلة المذكورة أعلاه. اضطر الأتراك في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته للجوء إلى الاتحاد السوفياتي لكي يبني لهم بعض المنشآت الحيوية، بما في ذلك معمل صلب في اسكندرون، وألمنيوم في سيديشهير، ومصفاة نفط في علي آغا، وسداً، ومحطة كهرمائية وكثير غيرها؛ سدّد الأتراك قيمة هذه المشاريع خضاراً وفواكه. أي بينما سعى الأتراك بجدّ ليكونوا حليفاً مخلصاً لـ «الأطلسي» وللعالم «الأول»، وجدوا أنفسهم اقتصادياً دولة عالم ثالث، ومضطرين للاعتماد على مقايضة الخضار بالمصانع.
لم يكن الاقتصاد هو المجال الوحيد الذي وجدت تركيا أن الغرب يتجاهل احتياجاتها فيه. فمساعي تركيا للتحوّل إلى قوة إقليمية مؤثرة تمرّ بالضرورة بامتلاك قدرات عسكرية متقدمة، بما ذلك بالضرورة تطوير قدرات التصنيع المحلي. ولكن برغم كون الجيش التركي هو الثاني من حيث الحجم في حلف «الأطلسي»، وبرغم كون تركيا خط المواجهة الأول لـ «الأطلسي»، إلا أن القدرات العسكرية التركية الذاتية هي، بنظر أنقرة، أقلّ بكثير من المطلوب، خصوصاً أن أنقرة لطالما اعتبرت أنها محاطة بالأعداء من الجهات كلها. فعلى سبيل المثال، أحدث دبابات الجيش التركي، 300 دبابة من طراز «ليوبارد ــ2»، حصلت عليها أنقرة من «فائض» الجيش الألماني في العام 2005. أما الغالبية الساحقة من دبابات الجيش التركي فهي أميركية من طراز Mـ60 وMـ48، تعود لخمسينيات وستينيات القرن الماضي. وحين قررت تركيا أن يكون لها مشروع دبابة محلية الصنع لم تحصل على العون سوى من كوريا الجنوبية. أما في سلاح الطيران، فثلاثون فقط من مقاتلات سلاح الجو التركي عمرها أقل من 15 عاماً، أما القسم الأكبر من الطائرات فيعود إلى أيام الحرب الباردة. وحتى الآن لم تحصل تركيا على أحدث أجيال الطائرة F-16، والتي حصلت عليها الإمارات العربية المتحدة مثلاً منذ 12 عاماً.
هذه ليست مجرد تفاصيل هامشية لا قيمة لها، بل هي تشكل أحد أهم أوجه العلاقة المتأزمة التركية - «الأطلسية». لا بد من الإشارة هنا إلى أن النقاش اليوم حول ابتعاد تركيا عن «حلف الأطلسي» ليس الأول من نوعه، وغالباً لن يكون الأخير. ولعل آخر مرة طرح فيها الموضوع بجدية كانت في العام 2013، عندما أعلنت تركيا أنها اختارت الصين لتكون شريكها في تطوير قدراتها في مجال الدفاع الجوي البعيدة المدى، مفضلةً منظومة HQ-9 الصينية على البدائل «الأطلسية»: الباتريوت الأميركي وأستيرـ 30 الأوروبي. اعتبر كثير من المحللين يومها أن الخطوة التركية تمثل محاولةً للابتعاد عن «حلف الأطلسي»، كما أشار البعض لخطورة قيام تركيا بدمج معدات صينية في مظلة الدفاع الجوي الأطلسية. في الحقيقة كان دافع تركيا لاختيار المنظومة الصينية، والذي عبر عنه المسؤولون الأتراك صراحةً، هو أن الصين هي الوحيدة التي قبلت أن تنقل لتركيا التكنولوجيا الضرورية لإنشاء صناعة دفاع جوي محلية، في حين أن باقي دول «الأطلسي» لم تقبل بهذا. لم تَسِرْ المفاوضات الصينية التركية بسهولة، وعندما حاول أردوغان دفع المفاوضات خلال زيارته لبكين في 29 تموز 2015، ردت الولايات المتحدة بعد أسبوعين بإعلانها أنها ستسحب صواريخ الباتريوت من الحدود التركية السورية بحلول تشرين الأول 2015. وفي ذلك الشهر، وجدت تركيا نفسها أمام احتمال المواجهة مع روسيا، في أعقاب إسقاط القاذفة الروسية، فيما تبنّى «حلف الأطلسي» موقفاً فاتراً إزاء المخاوف التركية. فماذا فعلت تركيا هنا؟ بعد أسبوعين تقريباً، أعلنت تركيا عن إلغاء الصفقة الجريئة مع الصين، وهذا ما اعتُبر عودة تركيا إلى بيت الطاعة «الأطلسي».
لا شك في أن المطالب التركية في الحصول على قدرات دفاع ذاتية هي مطالب مشروعة ومحقة، وسنجد الكثير من الأتراك ممن يعبرون عن تذمّرهم من أنهم سئموا علاقة الشراكة مع «الأطلسي» التي يكتفون فيها بالجلوس خارج المخيم لحراسته فيما يجلس الباقون في الداخل. لكن جوهر المسألة هو أنه لا يوجد في تركيا اليوم رجل من حجم أتاتورك، أو جمال عبد الناصر، أي لا يوجد مَن يريد فعلاً أن يتحدّى الغرب ويبني الدولة القوية القادرة المستقلة. أما من منظور أردوغان فالمشكلة برمّتها تكاد تكون في القشور والمظاهر، كما كشف هو نفسه عندما عبر عن استيائه من أن زعماء الغرب تضامنوا مع فرنسا وزاروها، في أعقاب هجمات باريس العام الماضي، فيما لم يزر أي زعيم غربي أنقرة للتعبير عن التضامن معها في أعقاب المحاولة الانقلابية الفاشلة. أردوغان لا يزال رئيس البلدية الشعبوي الديماغوجي المهتمّ بصورته في الشارع؛ وهو بكل تأكيد ليس الزعيم القادر على قلب ظهر المجن للغرب. إدراك «الأطلسي» هذه الحقيقة هو ما يفسّر الموقف الفاتر من التصريحات التركية الأخيرة ومن المصالحة التركية الروسية. وهذه الحقيقة هي ما تدفع للاعتقاد بأن أنقرة، بزعامتها الحالية، ومهما رفعت صوتها، فلن تغادر بيت الطاعة «الأطلسي».
نشرت للمرة الأولى في "السفير"