هل روسيا قمة إقليمية أم عالمية؟

16.03.2016

لم يعد العالم هو نفسه بعد 30 سبتمبر/ أيلول 2015،  فمنذ هذا التاريخ بدأت القوات الجوية والفضائية الروسية حربها ضد الإرهاب في سوريا استجابة للطلب الرسمي الذي تقدمت به حكومة الجمهورية العربية السورية إلى حكومة روسيا الاتحادية بالمساعدة في الحرب ضد الإرهاب. لقد رسم هذا التدخل تغيرا جوهرياً في مشهد العلاقات الدولية, إذ أن هذا التدخل الروسي ضد تنظيم "داعش" وبقية المنظمات الإرهابية في سوريا, والذي تم إخبار الشريك الأمريكي به قبل بدايته, أدى إلى تقلص النفوذ الأمريكي الجيو-سياسي في الشرق الأوسط وأسس بوضوح لميلاد القوة الحقيقة الفاعلة في العالم. 
لقد حددت روسيا بهذا العمل العسكري الحاسم ضد الإرهاب في سوريا خطوطها الحمراء التي لم تحددها بالكلام والعمل الدبلوماسي وحسب وإنما بعمل عسكري ملموس ومدعوم من قواتها الجوية والبحرية. لقد كان جلياً أن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية فهم الرسالة بوضوح وسرعة، ولكن هل يعني هذا أن التحالف الأنجلو- أمريكي والذي يمثل شرطي العالم سيستسلم بسهولة ويتنازل عن فكرته بالسيطرة على العالم؟. بداهة، من غير المنطقي أن نتوقع مثل هذا التحول لدى حلف الأطلسي الذي ببساطة لا يملك تلك القدرة الفكرية التي تؤهله لقبول الواقع الجيو-سياسي الجديد على الرغم من إدراكه لعقدة النقص لديه والناتجة عن النقص في قدراته العسكرية. إنه تحديدا ذلك التردد والخوف لديهم بأن فقدان سيطرتهم الدائمة على العالم قد تقود البشرية إلى حرب عالمية نووية و بالتالي إلى نهاية العالم.
ويعدّ الاتفاق الجديد حول سوريا بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية مؤشرا لضعف الولايات المتحدة الأمريكية،  ولكنه لا يعني أبداً أن الولايات المتحدة قد تأقلمت مع الحقائق الجديدة.  وفي خطابه الأخير أمام الكونغرس قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما إن ما يتردد أن  الأعداء يصبحون أقوى وأمريكا تصبح أضعف" مجرد شائعة، وإن الأمة الأمريكية هي الأمة الأقوى في العالم, وإنها تنفق في المجال العسكري أكثر مما تنفقه الأمم الثمان التي تليها في العالم مجتمعة. هذا الموقف هو استمرار منطقي لموقفه الذي أعلنه في مارس/ آذار 2014 بأن روسيا "قوة إقليمية؛ " وبالتالي فهي لا تشكل خطراً على أمن الولايات المتحدة الأمريكية. بينما كان موقف أوباما في قمة الأمن النووي في لاهاي أن" روسيا هي قوة إقليمية تهدد جيرانها المباشرين، وهو تهديد ناتج عن الضعف وليس عن القوة". وسعى أوباما من خلال هذه الكلمات إلى اخفاء الحقيقة بأن روسيا هي العدو الجيو-سياسي الأكبر للولايات المتحدة الأمريكية.
إذا كان كلام الرئيس الأمريكي صحيحاً فلماذا يسعى البتاغون لإنفاق 3.4 مليار دولار في أوروبا العام المقبل بدلاً من 789 مليون دولار لهذا العام؟ لقد أظهرت بعض الدول دعمها لهذا, بينما أظهرت دول أخرى في الإقليم معارضتها الشديدة له بسبب "عدم وجود" التهديد الروسي والذي يستخدم كذريعة لزيادة الإنفاق العسكري في أوروبا. لقد روجت الولايات المتحدة لفكرة التهديد الروسي لأوكرانيا على الرغم من كل التحريض والدعم الذي أظهرته للانقلابين في أوكرانيا. في نفس الوقت أعلنت قيادة القوات الأمريكية في أوروبا "EUCOM" أن ردع روسيا هو أولويتها المطلقة. لقد تم نشر هذا في الوثائق الإستراتيجية الجديدة على موقع "EUCOM" وتقول الوثيقة إن روسيا تتحدى حلفاء الولايات المتحدة وشركاءها حول العالم وهذه مشكلة عالمية. ولكبح جماح روسيا فقد اقترحت القيادة العسكرية الأمريكية إعادة تركيز أولوياتها العسكرية الأمريكية في أنشطتها الأطلسية في أوروبا, إضافة لذلك فقد خططوا لتقوية الجناح العسكري الشرقي للناتو، وزيادة التعاون الثنائي بين هذه الدول والولايات المتحدة وكذلك تشجيع الدول التي لم تدخل بعد في حلف الناتو بانضمامها للناتو من خلال التسهيلات التي تقدم لها. كما تخطط القيادة الأمريكية في أوروبا مع حلف الناتو لإجراء المناورات العسكرية قرب الحدود الروسية والتي قد تتطور إلى نزاع محتمل مع روسيا.
لقد كان هذا السبب الأرجح لاقتراح الحكومة الفرنسية مشروعاً بإعادة الاندماج الكلي لفرنسا في حلف الأطلسي من دون أي شكل من أشكال الإعلان.  وبالتالي التخلي عن سياسة ديغول بالاستقلال العسكري لأن نظرة ديغول كانت ترى أن الحلف يخضع للهيمنة الأمريكية والبريطانية.
حتى الدبلوماسي المخضرم هنري كيسنجر الذي كان يدعي الصداقة الدائمة لروسيا، وفي تعليقه حول قوة العلاقات الروسية الأمريكية لم يستطع تجنب حقيقة ما يعتري نفسه بالقول  إن "الآمال الأولية التي أظهرها التعاون الوثيق في مراحله الأولى ضد القاعدة وطالبان في أفغانستان والتي كان يمكن أن يتوسع في مجالات متعددة ضعف نتيجة مجموعة من النزاعات حول الشرق الأوسط ومن ثم انهار نتيجة التحركات الروسية في القوقاز عام 2008 وفي أوكرانيا عام 2014". كيسنجر ألقى باللوم على روسيا نتيجة لـ  " الشعور المتزايد بالقطيعة" متناسيا من تسبب في خلق كل بؤر التوتر هذه في العالم.
كل هذا يظهر أن أعضاء حلف الأطلسي لا يمكن أن يغيروا معتقداتهم ويبدؤون بتقبل روسيا كشريك جدي وليس ككائن يجب السيطرة عليه.
من ناحية أخرى يظهر البيان المقدم من جيمس كلابر مدير المخابرات الوطنية الأمريكية الرؤية لعالم متغير يكون قطبه حلف الأطلسي. لقد قال في جلسة استماع للجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ " لقد عرضت روسيا قدراتها العسكرية لتظهر نفسها كقوة عالمية تحظى باحترام من الغرب وتحافظ على الدعم المحلي للنظام وتدفع بمصالحها نحو العالمية". 
وبالتالي هل روسيا قوة محلية أم عالمية؟ إذا كان المقياس هو أن يكون لدى روسيا 200 قاعدة عسكرية حول العالم, أو أن تشعل روسيا الثورات الملونة وتعمم الفوضى لتستطيع من خلالها استعباد الشعوب سياسياً واقتصادياً وكله تحت اسم الديمقراطية، عندها وبحسب هذه المقاييس لن تكون روسيا قوة عالمية.
ولكن منذ الثلاثين من سبتمبر/ أيلول عام 2015 أصبحت روسيا اللاعب الأول المؤثر جيوسياسياً الذي يسعى لقيادة عالم يسير على الطريق الصحيح للإنسانية وهي مدعومة بقدراتها العسكرية وقوتها الروحية.
عندما انخرطت روسيا بحربها في شكل فعال في سوريا ظهر الغربيون جميعاً وبشكل غير مفهوم عاجزين, عندما تسربت المعلومات أن روسيا تملك أسلحة غاية في القوة والفعالية والتي تستطيع أن تشوش على كافة التجهيزات الالكترونية وتعطل أجهزة الاتصالات المعادية بدائرة قطرها 600 كم. لقد قال بعض الخبراء إن الغرب سيحتاج إلى عشر سنوات ليطور مثل هذه الأسلحة. ولكن بعد عدم وجود أي رد فعل قام الأطلسيون بسياستهم المعروفة جيداً وهي استخراج أفضل الأوراق لديهم وحتى لو كانوا مهزومين كما هي الحال في سوريا. إضافة لذلك فإن روسيا لا تؤمن بسياسة الهيمنة ولا تسعى لذلك. ولقد صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن هدف روسيا في سوريا ليس هدفاً جيو¬-سياسياً أو بهدف عرض القوة العسكرية ولكن الهدف هو محاربة "داعش" والإرهاب الذي يهدد الأمن الروسي والمصالح القومية الروسية. وكرر أن روسيا تريد حل جميع المشاكل من خلال التفاهم مع جميع الشركاء.
ولكن يبدو الأمر وللأسف الشديد وكأننا في "حوار طرشان", لأن الأطلسيين يسعون لمتابعة أجندتهم الخاصة بتحويل خسارتهم إلى ربح وإلى زيادة الفوضى ليس فقط في منطقة الشرق الأوسط وإنما في أوروبا أيضاً.
هناك الكثير من الأدلة التي لا تدعو للراحة والأمل بأنه لا يمكن تجنب صراع عسكري, مادام حلف الأطلسي سيستمر بتحريك مثل هذه الألعاب القذرة،  ويعتمد على قاعدة تقول: " إما أن تكون الأشياء كما نريدها أن تكون أو لا شيء آخر". إن هذا يدل على قدرتهم العقلية المحدودة عندما يتعلق الأمر بقبول التوازن في القوة والمشاركة في عالم جديد متعدد الأقطاب. و "لكن" (وهي لكن مدوية جداً) سيقود اللعبة في المستقبل القريب لاعب كبير آخر واسمه روسيا.

إميليا غليفا

 ترجمة : أحمد خضور