في إقليم ناغورني كاراباخ: النار تحت الرماد؟
تاريخياً، خضع إقليم ناغورني كاراباخ، الذي تقطنه غالبية أرمنية وأقلية أذربيجانية، لسيطرة روسيا القيصرية في نهايات القرن التاسع عشر، ثم أًلحق، بعد الثورة البلشفية، بجمهورية أذربيجان متمتعاً بحكم ذاتي استمر حتى انهيار الاتحاد السوفياتي في نهاية ثمانينات القرن الماضي. لكن ومع تطور الوضع في هذا الإقليم، أعلن الأرمن قيام سلطة محلية مستقلة العام 1991. ورداً على ذلك ألغت أذربيجان الحكم الذاتي، فنشبت الحرب بين الطرفين واتسعت وانخرطت أرمينيا فيها وشاركت في النزاع عبر الدعم العسكري واللوجستي.
استمرت هذه الحرب من العام 1992 حتى العام 1994، ونتج عن ذلك خسارة أذربيجان للإقليم إضافة لست مناطق أخرى كانت تخضع لسيطرتها فضلاً عن سقوط حوالي 30 ألف قتيل وتهجير ما يقرب من مليون مواطن من المناطق المجاورة، معظمهم من الأذريين.
توقف القتال إنما لم تنته الحرب. ولم يتم أي اتفاق سلام نهائي يضع حداً للمشكلة. بل دخلت على خط النزاع الأمم المتحدة، حيث اعتبرت أرمينيا دولة محتلة لأراضٍ أذرية. أما على الصعيد الإقليمي. فأنشأت «منظمة الأمن والتعاون الأوروبية»، لمتابعة جهود حل المشكلة، مجموعة «منيسك»، أعضاؤها الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا.
ومع ذلك لم يُنجز أي تقدم ينهي القتال الذي تجدد أكثر من مرة، كان آخرها في نيسان الماضي (2016)، كأقوى مواجهات عسكرية بين الطرفين. انخرطت في النزاع المسلح، علناً، دول الجوار الإقليمية، فوقفت تركيا مع أذربيجان لأسباب عديدة، ووقفت روسيا خلف أرمينيا والإقليم لأسباب عديدة أيضاً. تستجيب تركيا في دعمها أذربيجان لعوامل متشابكة متنوعة، دينية وتاريخية وعرقية، فضلاً عن مصالح اقتصادية وسياسية، أبرزها ما يلي:
تجمع تركيا مع أذريبجان مشتركات الدين واللغة والعرق، مما يجعل العلاقة بينهما حساسة ومحورية. ويردد الساسة في البلدين الجملة الشهيرة «شعب واحد في دولتين». ومن هذه المشتركات أيضاً الناحية الأخلاقية، حيث تعتبر أنقرة أنها مسؤولة أخلاقياً تجاه الشعب الأذري، وهذه المسؤولية مستمدة من إرث الدولة العثمانية. الى جانب ذلك، تُشكل تركيا من الناحية الجغرافية والجيوبوليتيكية طوق نجاة لأذربيجان من حصار خصومها لها (أرمينيا وإيران) ويُعتبر دعمها لها موازناً إقليمياً ضد أرمينيا تحديداً، حيث ما تزال علاقة هذه الأخيرة بتركيا تتسم بالعداء بسبب أحداث 1915 التي تسعى أرمينيا وأرمن المهجر لإقرار تسميتها بـ «المحرقة».
وهكذا تعتبر تركيا أن احتلال أرمينيا لخُمس الاراضي الأذرية في الحرب من أهم الخسائر الاستراتيجية الي مُنيت بها تركيا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. مقابل ذلك، يؤثر الوضع الحالي لإقليم ناغورني كاراباخ، لكونه محل نزاع، على سياسات تركيا تجاه منطقتي البلقان والقوقاز، فهو يحدّ من فاعليتها في الحوض الأدرياتيكي وقزوين بشكل مباشر. لذلك، فإن حل مشكلة الإقليم، وإزالة الحاجز الأرميني، سيُمكنها من التواصل عبر منطقة «تاهتشينان» مع أذربيجان والجمهوريات التركية، ما يجعل منها قوة إقليمية كبرى.
أما في الميدان الاقتصادي فإن العلاقات بين الطرفين وثيقة وآخذة بالتطور. إذ بلغ حجم التبادل التجاري بينهما العام 2015 بحدود الـ3,5 مليارات دولار، بينما تستثمر 2665 شركة تركية في أذربيجان في ميادين متنوعة. وتجمع البلدين إطارات اقتصادية عدة أهمها اللجنة الاقتصادية المشتركة والمجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي. كما ان أمن الطاقة التركية مرتبط بأذربيجان التي تُعدّ إحدى أهم الدول المصدرة للغاز الطبيعي، وتعول عليها في السعي نحو تقليل نسبة اعتمادها على الغاز الروسي والإيراني.
إن إرث روسيا، التاريخي في السيطرة على المنطقة في عهدَي روسيا القيصرية والاتحاد السوفياتي، معروف جداً حيث تُشكل منطقة جنوب القوقاز، أي أرمينيا ـ أذربيجان ـ جورجيا، دعماً استراتيجياً وحديقة خلفية للدولة والامبراطورية الروسية، لا يمكن التفريط بالاستقرار فيها، فضلاً عن المنافسة على أحواض الغاز الطبيعي في بحر قزوين، وخطوط مروره الى أوروبا. علماً ان أرمينيا تشكل شريكاً استراتيجياً لروسيا من النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية.
كما تُعتبر روسيا ضامن الأمن والاستقرار لهذا الجنوب ولأحواض بحر قزوين، على اعتبار أنها قوة عالمية عسكرية، ودولة سيطرت تاريخياً، كما ذكرنا، على المنطقة. ويشير المراقبون في هذا الإطار، الى ان اهتمام روسيا تمثل بمسارعتها رعاية ودعم اتفاق وقف إطلاق النار بعد ثلاثة أيام فقط من اندلاع الاشتبكات الاخيرة التي نشبت في نيسان 2016. أما التأثير الأرمني في الداخل الروسي، فهو مهم جداً، حيث قدّر الإحصاء السكاني في روسيا العام 2000 عدد الأرمن فيها بمليون وثلاثمئة ألف شخص، بينما يتجاوز عددهم وفق بعض الدراسات الحديثة المليونين وهو ما يجعل الجالية الأرمنية في روسيا الأكثر عدداً بين بقية الجاليات الأرمينية الأخرى. وهكذا يعتبر النفوذ الروسي في منطقة جنوب القوقاز موازناً مهماً للدور التركي، ومن خلفه الأميركي والأوروبي هناك. وفضلاً عن إعاقته تواصل تركيا مع جمهوريات آسيا الوسطى، تحتفظ روسيا بقواعد عسكرية على الأراضي الأرمنية في مناطق قريبة من الحدود التركية. كما تسيطر طائراتها على المجال الجوي الأرميني، علماً أن روسيا ترغب في منع تقارب أرمينيا مع حلف «الناتو» والاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة.
استناداً لهذه المعطيات، وبما أن النزاع المسلح لم يجد حلاً سلمياً دائماً، نشط المحللون لاستعراض الاحتمالات الممكنة. من هذه الاحتمالات مواجهة عسكرية مباشرة بين طرفي النزاع الرئيسيين (تركيا وروسيا). إلا أن هذا الاحتمال مستبعَد حالياً لحرص هذين البلدين على عدم الوصول الى مواجهة مباشرة كهذه.
أما الاحتمال الثاني فيطرح التفاوض للوصول الى حل. عندئذ تنضم مسألة إقليم ناغورني كاراباخ الى ملفات التنافس الروسي ــ التركي، ما قد يفتح المجال امام مساومات تؤدي الى صفقة ما. لكن هذا الاحتمال مستبعَد أيضاً في المدى المنظور لأسباب عديدة، أهمها ان المساومات لم تُطرح علناً باعتبار ان الحل النهائي لم ينضج بعد.
أما الاحتمال الثالث فيطرح بقاء الحرب بالوكالة، بحيث تستمر الاشتباكات بين الطرفين، شرط ألا ينجر الوضع الى مواجهة مباشرة، بانتظار توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار والابتعاد عن تصعيد التوتر.
جريدة "السفير"