"داعش" والرقة.. رقصٌ على إيقاع طبول الحرب
لا يكاد يستطيع تنظيم «داعش» أن يتكتّم على الأخبار الواردة بخصوص قرب فتح معركة الرقة ومنع وصولها إلى أهالي المدينة المحاصرين بسواده من كل الجهات. تحركات كتائبه وأرتاله غير العادية، والحواجز التي تتكاثر كالفطر على قارعة الطرق، وحركة دوريات جهاز الحسبة المكثفة، وهمسات عناصره المُشبَعة بالقلق حيناً وبالتحدي حيناً آخر، جميعُها مؤشرات تتلقفها بسرعة مجسّات الأهالي المتعطشة لسماع أي خبر من شأنه خرق حالة التغييب التي يفرضها التنظيم عليهم منذ أشهر عدة، والتي بلغت ذروتها مع حملة نزع أجهزة الاستقبال الفضائي «الستالايت».
كذلك، فإن مئات النازحين من الموصل هرباً من ضراوة المعارك هناك، لم يحملوا على ظهورهم وفي قلوبهم معاناة رحلةٍ قاسية نحو المجهول فحسب، بل في جعبتهم أيضاً أخبار جديدة لا يحتاج أهالي الرقة لاستخدام مجسّاتهم لالتقاطها، بل يسمعون بآذانهم هذه المرّة كلاماً مباشراً مفاده أن مدينتهم هي الهدف التالي. وعلى الرغم مما ينطوي عليه هذا الخبر من أهمية مصيرية بالنسبة إليهم، إلا أنه لا يصل إلى درجة أن يُغيّر من طقوس حياتهم اليومية التي تقوم بمجملها على التعايش مع نزوات الكابوس الأسود الذي يهيمن عليهم منذ عامين. وفي خضم هذا المشهد السوريالي يبدو أن السعي وراء لقمة العيش في ظل موجة الغلاء الفاحش التي اجتاحت أسعار المواد الغذائية مؤخراً، أو التحايل من أجل التخلص من رقابة عيون «الحسبة» التي تحصي عليهم عدد أنفاسهم وطول ملابسهم، وغيرها من تفاصيل يومياتهم الأليمة والمملة، تظل هي التي تحتل موقع الأولوية القصوى لدى غالبية الأهالي. لذلك يبدو من الطبيعي بعد أن يسمع أحدهم خبر الهجوم على المدينة من نازح عراقي، أن يسارع إلى مساومته على سيارته الحديثة، والتي غالباً ما ينجح بشرائها بربع ثمنها الحقيقي، بسبب حاجة النازح القصوى إلى المال، كما قال لـ «السفير» حمود الموسى، مؤسس «حملة الرقة تذبح بصمت».
عزل الرقة: كيف وبمن؟
لكن عبارة «عزل الرقة» التي وردت في تصريحات المسؤولين الغربيين تجتاح الرؤوس المتعبة، وتعتمل فيها كطاحونة قديمة لا تنتج إلا التساؤلات والهواجس. ورغم ارتفاع صوت الجعجعة، فإن طحين الأجوبة يبدو بعيد المنال. غير أن حمود الموسى في حديثه لـ «السفير» اعتبر أن «المقصود بالعزل ليس الحصار الذي من شأنه التضييق على المدنيين، بل هو عزلٌ عسكري يكون للطائرات دورٌ بارز فيه من خلال مراقبة حركة عناصر تنظيم داعش، واستهداف الممرات التي يستخدمونها في تنقلاتهم بين الجبهات لتعزيزها أو تحصينها».
ويحيطُ بالرقة من الشمال «قوات سوريا الديموقراطية» التي تسيطر على منطقة شاسعة من الشريط الحدودي مع تركيا، تُشكّل مدينة تل أبيض التابعة لريف الرقة الشمالي، أهم حواضرها. ومن الشرق، تبعدُ «قوات سوريا الديموقراطية» أكثر من 50 كيلومتراً عن حدود الرقة، حيث تتمركز في مدينة الشدادي التابعة لريف الحسكة. وفي الغرب، فإن أقرب نقطة إلى الرقة هي مدينة منبج التي يسيطر عليها «قسد».
لكن تجري في منطقة غير بعيدة عن منبج معارك «درع الفرات» التي باتت على مشارف مدينة الباب. وتأملُ أنقرة التي تقود عمليات «درع الفرات» أن تكون مدينة الباب أحد الطرق التي تصل بها إلى مشارف الرقة، كما تهدد باحتمال انتزاع منبج من «قسد» على خلفية اتهامها بعدم الالتزام بشرط إخلاء المدينة من عناصرها بعد التحرير. وغرباً أيضاً، فإن الجيش السوري لا يبعُد عن مدينة دير حافر سوى كيلومترات قليلة، وهي مدخلٌ أساسي نحو مدينة الطبقة غرب الرقة. أما في الجنوب، فهناك مساحاتٌ شاسعة من الصحراء التي يسيطر التنظيم على القسم الأكبر منها وصولاً إلى المناطق المحاذية لشمال مدينة تدمر حيث يُسيطر الجيش السوري.
وباستثناء جهة الشمال حيث تل أبيض، فإن المسافات التي تفصل القوى المختلفة عن الرقة هي مسافات طويلة تتراوح بين 50 إلى 100 كيلومتر، ما يجعل الحديث عن «عزل الرقة» بمعنى الحصار الجغرافي أمراً يحتاج إلى وقت ليس بقصير.
ومن المرجح أن يكون الأمر كما قال الموسى لـ «السفير» عبارة عن مراقبةٍ عبر الطائرات، مع إمكانية الدفع بقوات «سوريا الديموقراطية» لاقتحام بلدة مركدة في ريف دير الزور الشمالي لتنقطع بذلك الصلة الجغرافية بين الرقة والعراق، لأن طريق مركدة هو المعبر الوحيد الذي بقي أمام «داعش» للوصول إلى مناطق سيطرته في ريف دير الزور الشمالي التي تتصل بدورها مع ريف الرقة.
وقد يكون هذا أحد جوانب العزل المقصودة بحديث وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر وغيره من المسؤولين الغربيين، أي السيطرة على الحدود السورية - العراقية، وهو ما يُذكّر بنظرية «فصل المسارح» التي تطرّق إليها الوزير الأميركي قبل أشهر عدة.
وكانت طائرات «التحالف الدولي» قد دمرت خلال الأسابيع الماضية معظم الجسور على نهر الفرات، ما أدى عملياً إلى فصل مناطق سيطرة التنظيم شمال النهر عن مناطق سيطرته جنوبه، باستثناء بعض الممرات القليلة جداً وأهمها سدّ الفرات. وكانت «السفير» قد أشارت في تقرير سابق إلى أن التنظيم استبق هذه الخطوة وعمد في وقت سابق إلى نقل قسم من قادته وكوادره، بالإضافة إلى مخزون بعض مستودعاته من العتاد الثقيل، من الرقة إلى دير الزور، وتحديداً القسم الواقع منها جنوب نهر الفرات.
هل يستعد التنظيم للمعركة المرتقبة؟
مما لا شك فيه أن «داعش» قام خلال السنتين الماضيتين بوضع مخططات الدفاع عن المدينة وإنشاء ما تستلزمه هذه المخططات من بنية تحتية كالتحصينات وخطوط الدفاع التي جعلها تزنّر المدينة من جميع الجهات بحسب ما توفر لديه من إمكانات، وهي في أغلبها عبارة عن خنادق وأنفاق وكمائن وحقول ألغام. كما أن التنظيم استفاد من تجربة شهر أيار الماضي عندما أعلنت «قوات سوريا الديموقراطية» عن معركة تحرير الرقة وخاضت معارك عنيفة مع التنظيم في الريف الشمالي قبل أن تتحول إلى منبج وتسيطر عليها، حيث عزز التنظيم بتعزيز دفاعاته على طول خط الجبهة الشمالية.
ومع ذلك، فإن اندلاع معركة الموصل وبدء الحديث عن قرب معركة الرقة، تركا تأثيراً معنوياً كبيراً على التنظيم وقادته وعناصره، الأمر الذي انعكس على تحركاتهم التي غلب عليها طابع الارتجال إلى حد كبير. وهو ما لاقى ترجمته العملية في تشديد التنظيم على أهالي المدينة عبر تكثيف دوريات الحسبة ونشر المزيد من الحواجز على الطرق، مع تحركات مشبوهة لبعض أرتاله العسكرية. وبهذا الخصوص، قال ناشط لـ «السفير» رفض الكشف عن اسمه إن أرتال «داعش» تتجه نحو الجنوب وبعضها تمركز في بلدة المنصورة، وهو الأمر الذي «يثير الاستغراب» بحسب الناشط، لأن «التحالف الدولي» وحلفاءه على الأرض غير موجودين في هذه الجهة. ولم يخف الناشط توقعه أن يكون جزء من خطة التنظيم هو الانسحاب نحو منطقة القلمون الشرقي أو البادية عموماً.
أهم كتائب التنظيم في الرقة
ترتكز قوات «داعش» في الرقة على عدد من الكتائب والألوية العسكرية المدربة جيداً والمدججة بأحدث أنواع الأسلحة التي يمتلكها. وبعض هذه الكتائب هي من قوات النخبة التي كانت بملابسها المميزة وأقنعتها السوداء تزيّن العديد من إصدارات مؤسسة الفرقان والاعتصام في السنوات الماضية.
وأهم هذه الكتائب «لواء الصديق» الذي اسسه أبو محمد العدناني قبل مقتله. وهناك جزء من «القوة المركزية» التي تُدعى «جيش الخلافة». ولكن أكثر ما سيثير شهية واشنطن هي كتيبة «العولقي» التي تتكون من مقاتلين أجانب غالبيتهم من حملة الجنسية الفرنسية، وقد قتل، الثلاثاء الماضي، أحد قادتها، ويدعى أبو محمد الكندي، نتيجة غارة جوية يعتقد أنها لطائرات «التحالف الدولي». وثمة معلومات استخبارية تربط بين هذه الكتيبة والتفجيرات التي حدثت في بروكسل.
نشرت للمرة الأولى في "السفير"