إدلب.. “سلام بالوكالة”؟
بعد حلب، تتجه كلّ الأنظار اليوم إلى إدلب. وليس المعنيّ هو مدينة إدلب وحدها ولا حتّى محافظتها، بل المنطقة الأوسع التي تسيطر عليها قوى «المعارضة» والتي تشمل أيضاً أجزاءً من محافظات حلب وحماة واللاذقيّة. منطقة يتخطّى عدد سكانها بكثير أعداد من كانوا في شرق حلب قبل حصارها، ويقدّرون بأكثر من 2,5 مليون نسمة، نصفهم في محافظة إدلب وحدها.
إنّها منطقة زراعية بامتياز كانت تواجه قبل الانتفاضة الشعبيّة أزمتين: أزمة تنمية نتيجة تفتّت الحيازات وغياب البدائل، ولم تأبه الدولة أساساً بحلّها مع أنّها لطالما شكّلت معيناً «للنظام»، وأزمة ذاكرة قمعٍ دامٍ عرفته في سنوات 1979-1982 لم يلتفت أحد لتضميد ما خلّفه من جراحٍ عميقة. وكانت مناطق فيها كانت قد أفرزت منذ التسعينيات جهاديين ذهبوا للقتال في أفغانستان وغيرها. والمفارقة أنّها شهدت مع الحرب نوعاً من النهضة، ليس لأنّ المساعدات الدوليّة تدفّقت عليها فحسب، بل أيضاً لأنّها أضحت حلقة أساسيّة لاستيراد وتجارة البضائع التركيّة نحو المناطق السوريّة كافّة، ولأنّ منتجاتها الزراعيّة باتت «تُصدّر» عبر «معابر»، مثل قلعة المضيق، حتّى إلى لبنان.
وبالتالي، لا يُمكن اختزال إدلب الواسعة إلى «جفش» («النصرة» سابقاً) وشاكلاتها. إذ إنّها عاشت تجربة «سياسيّة» حقيقيّة لإدارة شؤونها وخدمة أبنائها والنازحين إليها على المستوى المحلّي، لها سلبيّاتها ولكن لها أيضاً إيجابيّاتها. فها هي بعض مديريّات «النظام» قائمة في مدينة إدلب يحميها مقاتلو «جفش»، كما تمّ بوعي تشكيل مديريّات لضبط الخدمات العامّة، حيث غابت مديريّات الدولة السوريّة. كذلك للدلالة، ها هم مقاتلو تنظيم «أحرار الشام» يحمون قوافل إخلاء الجرحى والسكّان الراغبين من مدينتي كفريا والفوعة ضمن المقايضة العسكريّة - السياسية التي جرت حول حلب.
كلّ هذا يفتح آفاقاً جديدة لما بعد حلب، يُمكن أن يكون عنوانها الرئيس التوافق الروسي – التركي - الإيرانيّ في موسكو والإعلان عن وقفٍ واسعٍ لإطلاق النار، باستثناء «داعش» و «جفش»، وجولة مفاوضات في الأستانة. واللافت أنّ القوى المحليّة في إدلب الواسعة قد رأت فرصةً في هذا المسار وتتفاعل معه، على عكس القوى السياسيّة «التقليديّة» المشاركة في الجولات التفاوضيّة.
لكن ربّما بمنظور مختلف. إذ إنّ همّ القوى «التقليديّة» هو الانتقال «السياسيّ» للحكم، برغم كلّ ما خبرته من تلاعبٍ للدول بهذا المفهوم. وهي أصلاً لا ترغب في الإجابة على سؤال ما الذي كان يستحقّ كلّ هذا القتل والدمار بعد تحويل «الثورة» إلى «حرب تحريرٍ» في حلب؟ أمّا القوى «المحليّة» فهمّها الأساس هو الأهالي ومصيرهم وتجنيبهم المزيد من المآسي. ومن قال إنّ تنافس تنظيمات سياسيّة أصلاً ضعيفة يؤسّس للانتقال السياسيّ أكثر من الحرص على أمن ومعيشة مواطنين تتحمّل مسؤوليّتهم؟
يبقى أنّ المعضلة الأساس في إدلب الواسعة هي «جبهة النصرة» («فتح الشام» لاحقاً). واللافت أنّ المناخ المعارض العام يحمّلها مباشرة مسؤوليّة تقويض اتفاق إخلاء المقاتلين من حلب، بحيث تتوالى الدعوات كي تحلّ نفسها. وهذا بحدّ ذاته غير مسبوق.
فهل أسّس اتفاق موسكو الثلاثيّ إلى «سلامٍ بالوكالة» كي توقف إيران وتركيا صراعهما غير المباشر عبر سوريا؟ ربّما. ومن دلالات ذلك تداعي أوروبا للتشاور مع دول الخليج حول دورهم المستقبليّ، والانزعاج الذي تبديه السلطة السوريّة تجاه هذا الاتفاق، وكذلك صدور قرار مجلس أمن توافقيّ حول المراقبة الإنسانيّة لعمليّة إجلاء المسلّحين وحماية المدنيين بعد معركة حلب.
للمفارقة، وفي معرض أولويّة الإنسان على السياسة، كان لافتاً قلّة الاهتمام السوري والإعلامي بقرار ثانٍ لمجلس الأمن صدر في اليوم ذاته، يمدّد لقوّات حفظ السلام في الجولان، ويطالب الأطراف جميعها بوقف انتهاكاتها، «مرحّباً بالجهود المبذولة من هذه القوّات لتطبيق سياسة الأمين العام في عدم التسامح مع الاستغلال الجنسيّ وسوء المعاملة ولضمان الامتثال الكامل لموظّفي الأمم المتحدة لقواعد السلوك».
"السفير"