العمارة والحضارة الإسلامية

22.12.2016

عرفت الأرض منذ القدم عدّة حضارات نّشأت على ظهرها، واختلفت تلك الحضارات عن بعضها البعض باختلاف تطوّرها ومدى قوتها في مجالات الحياة، فإنّ الحضارة كما يعرّفها ابن خلدون:إنما هي تفّنن في الّترف وإحكام الصّنائع في وجوهها ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني، والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله[1]، ويعرفها البعض الآخر على أنّها نظام اجتماعي يُعين الإنسان على الزيّادة من إنتاجه الثّقافي، وإنّما تتألف الحضارة من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنّظم السياسية، والتّقاليد الخلقيّة، ومتابعة العلوم والفنون[2].

إن أبرز ما يثير الاهتمام حول دراسة الحضارات السابقة وتاريخها هو عمارتها، فهي تبرز بوضوح قوة الحضارة وتقدمّها في مجال العلوم والفنون والتسيير، فهي تبرز نفس الوقت أمرين مهمين وهما الرقي المادي والمعنوي لها، فعلى سبيل المثال، الإنسان القديم كان يبحث فقط عن مكان يحميه من مخاطر الطبيعة سواء كان من طقس كالحر والبرد أو من حيوانات مفترسة ضارية، ولكن بدأ فيما بعد يبحث عن أكثر من ذلك فتخلّى عن الكهوف وعن الخيام التي كانت تسمه بالبداوة، والتجأ إلى الحضارة من خلال العمارة، لأن العمارة ليست مجرد بناء ولكن بناء جميل، وإنما بدأت العمارة فنّا حين فكّر رجل أو امرأة لأول مرة أن يقيم بناء للمظهر والنفع معا[3]، فأصبحت كتعبير فني عن عادات ومكتسبات ونبالة الأمم.

عندما ذكر الله - عز وجل - في القرآن الأمم السابقة في مقام القوة، ذكر بناءهم للتعبير عن ذلك قال الله - تعالى -عن أصحاب الحجر: (وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين) [الحجر: 82]، النحت في كلام العرب: البري والنجر.نحته ينحته (بالكسر) نحتا أي براه. والنحاتة البراية. والمنحت ما ينحت به. وفي التنزيل (أتعبدون ما تنحتون) [الصافات: 95] أي تنجرون وتصنعون. فكانوا يتخذون من الجبال بيوتا لأنفسهم بشدة قوتهم[4]، وليست القوة فقط قوة في الجسم ولكن قوة معنوية أيضا من خلال شدة العزم والإرادة والاجتماع التي مكنتهم من القيام بهذا العمل الكبير الذي لا يخطر على البال في وقتنا المعاصر، وهذا ما أكّده ابن خلدون في المقدمة فقال: واعلم أن تلك الأفعال للأقدمين كانت بالهندام أي: "النّظام وإعمال العقل والإرادة"، واجتماع الفعلة وكثرة الأيدي عليها، فبذلك شيّدت تلك الهياكل والمصانع، ولا تتوهّم ما يتوهّمه العامّة أن ذلك لعظم أجسام الأقدمين عن أجسامنا في أطرافها وأقطارها، فليس بين البشر في ذلك كبير بون كما نجد في الهياكل والآثار. وقال الله - تعالى -: (قيل لها ادخلي الصرح فلما رأيت حسبته لجة وكشفت عن ساقيها) [النمل: 44]، وكان هذا الصرح قصراً عظيماً من زجاج يجري تحته الماء فلما دخلت ملكة سبأ إلى قصر سيدنا سليمان - عليه السلام - ظنت أن الماء لامسها فكشفت عن ساقيها فقال لها سيدنا سليمان - عليه السلام - أنه لن يلمسك لأن الزجاج سيمنعه منك، وكان ذلك ليريها عظمة سلطانه وتمكنّه[5]، وبالفعل حدث ذلك وعلمت تلك الملكة بقوة سليمان وحكمته فصدّقت بذلك، وأقرت بأنه نبي مرسل من الله فآمنت بالله وتابت من كفرها وشركها.

لا ينحصر الحيز الزمني لإبراز هذه القوة بمدة حكم أو تواجد الحضارة المعنية بالأمر، وهذا من الأشياء التي تجعل العمارة من أصول الحضارات لا فروعها، فهو شاهد حي يروي لنا التاريخ دون التفكير في إمكانية كذب الناقل أو تغييره للحقائق هذا من جهة، ومن جهة أخرى فنحن نخرج عن الطريقة القديمة لدراسة التاريخ عن طريق الكتب والجلوس في المكتبات وعلى مدرجات الجامعات بل نخرج لنتلمس التاريخ ونرى الآثار ونندمج مع محيطها ونتحسس أرجاءها لنشعر بتلك القوة المادية والمعنوية للحضارة عن طريق البناء، لنتمكن من استخلاص العبر والدروس من تلك الآثار، وبالفعل هذا ما يحدث في الأمم المتطورة فإن الدارس لفن العمارة وهندستها يرى أن تطور العمارة ما هو إلا لمسات هندسية جديدة على آثار معمارية قديمة، فإن العمارة اليونانية ما هي إلا تطور للعمارة الرومانية والعمارة الإسلامية ما هي إلا تلك المشاهدات والتأثرات بعمارة البلدان التي فتحها المسلمون، كالعمارة البيزنطية والتركية، فالشاهد أن العمارة لا تنتهي بانتهاء الحضارة بل تبقى شاهدا صادقا على قوة تلك الحضارة ونضجها ومدى تطورها، وتبقى يدّ عون للحضارات التي قامت بعدها تمدها بالآثار لتستخلص منها العبر والحكم، فتدمير العمارة تدمير لرمز الحضارة والشاهد عليها، ولهذا عند غزو أمة لأخرى فإنها تقوم إما بهدم رموزها المعمارية الكبيرة أو القيام بتغييرها وتحويلها، كما هدم جنكيز خان مدينة بغداد، وكما حول الإسبان مساجد المسلمين إلى كنائس، وكما دمرت فرنسا المساجد في الجزائر، وكل هذا من أجل طمس رموز هذه الأمم.

لقد كانت ولا تزال الحضارة الإسلامية تشع في هذا العالم مبرزة قوتها وتطورها المادي والمعنوي من خلال عمارتها من بيوت وقصور ومساجد وحمامات ومنارات وبنايات حربية تشهد بالإتقان الرهيب والتمكن الفريد لأمتنا في علوم العمارة والفن والزخرفة، فها هو المسجد النبوي الذي وضع أساسه رسول العالمين وسيد الناس أجمعين لؤلؤة العالم الإسلامي بأسره من خلال هندسته الفريدة من نوعها فهو موطن يظهر قوة العلم الدنيوي والعلم الديني إذ أنه يجمع المسلمين في مكان يدرسون فيه العلم والشرع فتتعزز بينهم الأخوة والمحبة، وها هو قبة الصخرة في القدس يحكي ويروي تاريخ الخلافة الأموية الإسلامية بعراقته وصموده، فهو أقدم أثر أو عمارة إسلامية قائمة حتى الآن ولم تتغير معالمها أو تخطيطها منذ تشييدها[6]، وها هو قصر الحمراء في الأندلس يروي تاريخ أجدادنا ممن عاشوا هناك وحكموا، وهاهي مساجد تركيا وأوزباكستان والهند تحكي مدى توسع الرقعة الجغرافية لحضارتنا.

إن العمارة وهذه المساكن من نعم الله - سبحانه وتعالى - وفضله على عباده، إذ سخر لهم الأرض وما فيها من معادن وصخر وشجر ليستغلوها ويتنعموا بها، ولهذا وجب على المسلم المؤمن التقي أن يشكر ربه على هذه النعم وأن يسعى جاهدا للمضي قدما في خدمة هذه الحضارة المباركة والأمة التماسكة لتعود أمة قوية كما كان سلفنا الصالح، فالتحلّي بالعزم والإرادة وتحصيل العلم مع التوكل على الله - سبحانه - لا شريك له سيجعلنا نصل إلى ما نريد إن شاء الله لأن ذلك جمع بين الأسباب الشرعية والكونية، فكثير من الناس أعرض عن هذه الأسباب الشرعية من دعاء وتوكل على الله وشكر لنعمه، ولهذا فإن الله حذرنا من سلك طريق الهالكين من قبلنا ممن اغتر بنفسه وبقوته وماله فنسي أن ذلك من عند الله فقال - تعالى -: (فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون) [النمل: 52]، فقد عذبهم الله وهدم بيوتهم فلم يبقى منها سقف ولا جدران، هذا عاقبة ظلمهم وشركهم بالله، وبغيهم في الأرض[7]، وقال - تعالى -عن قبيلة سبأ التي دمرها الله لما كفرت بأنعمه: (فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم) [سبأ: 16]، فدمر الله سدهم الذي بنوه وكانوا يشتهرون به ويعبر عن قوتهم وتطورهم في العمارة والزراعة إذ كانوا يستغلون الماء الذي جمعوه في الفلاحة وتربية المواشي، ولكن في الأخير لم يبقى لهم إلا الدمار والعار والشنار، وأصبحت قصتهم تروى لتكون عبرة للمعتبرين.

1- عبد الرحمن ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ج1، الطبعة الأولى، دار يعرب، دمشق- سوريا، 2004، ص.338
2- ول وايريل ديورانت، ترجمة الدكتور زكي نجيب محمود، قصة الحضارة، ج1، الطبعة الأولى، دار الجيل، بيروت- لبنان، بدون سنة، ص.3
3- المرجع نفسه. ص.149
4- محمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج12، الطبعة الأولى، مؤسسة الرسالة، بيروت- لبنان، 2006، ص.249
5- اسماعيل ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج6، الطبعة الثانية، دار طيبة، الرياض- السعودية، 1999، ص.197
6- عبد الله عطية عبد الحافظ، الآثار والفنون الإسلامية، 2005، ص.82
7- عبد الرحمن السعدي، تيسير الكريم الرحمن، الطبعة الأولى، دار ابن حزم، بيروت- لبنان، 2003، ص.577

(المقال يعبر عن رأي كاتبه، ولا مسؤولية على هيئة التحرير)