موسكو وفوز ترامب
استقبلت موسكو، سواء على المستوى الرسمي أو على مستوى الرأي العام، تغلّب «الجمهوري» دونالد ترامب على «الديموقراطية» هيلاري كلينتون في انتخابات الرئاسة الأميركية بارتياح واضح.
وهذا الارتياح ينبع بدرجة كبيرة من تأثير التصريحات الإيجابية لدونالد ترامب بشأن روسيا والرئيس فلاديمير بوتين خلال حملته الانتخابية. فقبل الاقتراع على الرئاسة الأميركية، اجتهدت غالبية وسائل الإعلام الروسية في تصوير فوز ترامب كـ «أفضل هدية» لموسكو مقارنة بفوز «الديموقراطية» هيلاري كلينتون، مع الأخذ في الاعتبار القضايا الخلافية بين البلدين من سوريا وأوكرانيا وصولاً إلى الدرع الصاروخية وتوسّع «الناتو» ونشر قوات أميركية «أطلسية» مؤخراً بالقرب من الحدود الروسية.
فاستطلاعات الرأي العام الروسي أوضحت في أيلول الماضي أن 39 في المئة من الروس المهتمين بالانتخابات الرئاسية الأميركية يرغبون في رؤية ترامب رئيساً جديداً للولايات المتحدة، بينما 13 في المئة فقط يفضلون هيلاري.
وتُبين هذه الاستطلاعات أيضاً أن نحو 83 في المئة في روسيا ينظرون بشكل سلبي إلى باراك أوباما، ومن ثم لـ «الديموقراطيين» في الولايات المتحدة. وكان طبيعياً أن يتأثر قسم من المواطنين الروس بتصريحات ترامب التي امتدح فيها فلاديمير بوتين، وألمح فيها كذلك إلى احتمال الاعتراف بالقرم كجزء من روسيا، وما قد يترتّب على ذلك من إلغاء العقوبات الغربية ضد موسكو بسبب الأزمة الأوكرانية.
لقد كان بوتين، عملياً، أول مَنْ هنّأ ترامب بالفوز، متمنياً تحسين العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة في «العهد الأميركي الجديد». ومع ذلك يُمكن ملاحظة بعض الحذر في تهنئة الرئيس الروسي، خاصة عندما شدّد على أن الكرملين يُدرك أن «إعادة بناء العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة لن تكون سهلة». وهذا الحذر امتدّ أيضاً إلى دميتري بيسكوف، المتحدث الصحافي للرئاسة الروسية، الذي أكد «أنه من الحماقة التعويل على تسوية الخلافات في العلاقات الروسية الأميركية بين ليلة وضحاها».
ولم يفُت وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف التشديد كذلك على «أن بلاده ستحكُم على الإدارة الأميركية الجديدة من أفعالها». وبرغم هذا الحذر النسبي على المستوى الرسمي في روسيا، إلا أن الكثير من وسائل الإعلام الروسية المحسُوبة على الكرملين لا تخفي ابتهاجها المطلق بفوز ترامب، وتُبشر بقُرب إلغاء العقوبات الغربية المفروضة على بلدهم وتحسين العلاقات مع واشنطن، التي كانوا قبل أيام قليلة يكيلون لها «قصائد الذم».
في صفوف الخبراء الروس المختصين بالشأن الروسي، يسود رأي مفاده أن تعامل الكرملين مع «الجمهوريين» الأميركيين أسهل بكثير من التعامل مع «الحزب الديموقراطي». ويُرجع هؤلاء هذا الأمر إلى أن «الجمهوريين» لا يهتمون بموضوع الديموقراطية والحقوق السياسية والفردية في روسيا خلافاً لـ «الديموقراطيين»، الذين اعتادوا على انتقادها في هذا الشأن.
ويُضيف أصحاب هذا الرأي إلى ذلك أن ترامب سينخرط مع روسيا في محاربة الإرهاب بشكل فعلي، خاصة في سوريا، ليس بالأقوال كما كان يفعل أوباما وإدارته «الديموقراطية». ولكن هذا الرأي، كما نرى، لا يتطرّق عادة إلى ما يمكن أن يكون لـ «الجمهوريين» من أفضلية على «الديموقراطيين» في التعامل مع روسيا بشأن قضايا خلافية مثل الدرع الصاروخية وتوسّع «حلف شمال الأطلسي» والسلاح النووي وغيرها من القضايا الشائكة بين البلدين.
بعض الخبراء الروس يعتقد أيضاً أن «الجمهوريين» يتفهمون بوتين أكثر من غيرهم، حيث تجمعهم مع الرئيس الروسي بعض القيم المحافظة. ويشدّدون على أن ترامب يتسم بالواقعية، كما بوتين، في السياسة الدولية. ويدللون على رأيهم بما أعلنه ترامب من اعتزامه عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى والتزامه بالداخل الأميركي لإحياء «مجد الولايات المتحدة».
ويرحّب هؤلاء بما رصدوه من نزعة «انعزالية» لدى الرئيس الأميركي الجديد، والتي لها جذور تاريخية في الولايات المتحدة. لكنهم يتجاهلون ما صرّح به ترامب غير مرّة بأن «مَن سيدفع المال، ستقوم واشنطن بحمايته»، وهو ما قد يعني أن الرجل يُفكّر في قضايا السياسة الدولية بعقلية التاجر ورجل الأعمال في المقام الأول.
لا يستبعد فريق آخر من الخبراء الروس احتمال اختلاف ترامب المرشح عن ترامب الرئيس. ومن ثم يدعون إلى عدم المبالغة في تأكيد أنه سيفي بمواقفه تجاه روسيا التي صرح بها خلال حملته الانتخابية. ويعتقد هذا الفريق أن التنافس بين الولايات المتحدة وروسيا على مناطق النفوذ سيظلّ قائماً. ويؤكد أن حجم التباينات والخلافات حول المصالح بين البلدين بات كبيراً بدرجة لا تسمح لترامب بالتغلّب عليها بالكامل، لا سيما في ظل الصقور داخل «الحزب الجمهوري» والانقسامات التي حدثت داخل هذا الحزب أثناء الحملة الانتخابية، اعتراضاً على مواقفه وتصريحاته.
هؤلاء يرون أيضاً أن الرئيس في الولايات المتحدة لا يقرّر كل شيء، حيث يُوجد تأثير كبير للكونغرس والمؤسسة العسكرية الأمنية والمجمع الصناعي العسكري والاحتكارات الكبرى. ويقولون إنه لا يمكن بأي حال من الأحوال ضمان تنفيذ ترامب وعوده بالتقارب والتعاون مع روسيا، حيث إنه كان يتقلّب كل يوم في تصريحاته ومواقفه الانتخابية.
لا شك في أن فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية يُشعر الروس بالارتياح في ظل العلاقات المتردية بين البلدين، خاصة خلال الولاية الرئاسية الثانية لبارك أوباما. تلك الولاية المليئة بالتناقضات والخلافات الداخلية والخارجية، بما في ذلك مع روسيا، والتي لا يمكن حلّها على وجه السرعة.
ولا يبقى أمام الروس إلا الأمل بأن يكون ترامب كما تصوّروه، والأمل أيضاً بأن يفي بوعوده بشأن التعاون مع روسيا والاعتراف بدورها الجديد على الساحة الدولية. ولكن هذا، في الغالب، سيحتاج إلى دفع أثمان متبادلة معينة. وهو ما لا يتحدّث عنه أحد من الخبراء الروس في الشأن الأميركي أو من الرسميين في روسيا حتى يومنا الحاضر.
نشرت للمرة الأولى في "السفير"