أميركا والانتخابات الرئاسية: نظرة من وراء المحيط

31.10.2016

تعيش أميركا معركة انتخابية هابطة مقارنة بالمعارك الانتخابية الرئاسية السابقة. فلا المرشحة الأقرب للفوز هيلاري كلينتون تملك الكاريزما التي امتلكها أسلافها، ولا المرشح دونالد ترامب يملك القدرة على الإقناع، وبالتالي خوض معركة انتخابية لها أفق حقيقي. ذهبت الهيبة الأميركية أدراج الرياح إلى حد كبير، بسبب سياسات أميركا الشرق أوسطية، وإلى حد ما بسبب ابتذال الحملة الانتخابية الأميركية الراهنة مقارنة بسابقاتها.

ولا يعوض الهيبة المفتقدة انتشار العلم الأميركي على المنازل والمباني هنا في نيويورك، أو البرامج التلفزيونية المتتالية لتغطية الحملة الانتخابية. ومع التفاؤل الذي يبديه «الديموقراطيون» بفترة الحكم المرتقب لهيلاري كلينتون، إلا أن هناك قضايا ستبقى محل إجماع من الرؤساء الأميركيين كافة على اختلاف ميولهم الأيديولوجية ومشاربهم السياسية. ومن هذه القضايا التحديات والفرص التي تطرحها جغرافيا الولايات المتحدة الأميركية على الإدارات المتعاقبة وسياساتها الإستراتيجية.

يُعتبر النظر إلى المحيط الأطلسي وموقعه على خريطة العالم تمريناً فكرياً وإستراتيجياً من نوع فريد، إذ أنك تنتقل بالطائرة في ثلاث عشرة ساعة من الشرق الأوسط إلى نيويورك تقضي منها ساعات ست عابراً المحيط من أوروبا إلى الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأميركية. يبدو التأمل في الأطلسي مختلفاً عن كل البحار والأنهار التي قد تكون وقفت عندها من قبل، ومرد ذلك أنه عندما تحدق في الأطلسي تشعر وكأنك تجلس بالضبط عند نهاية العالم، حيث لا شيء أمامك سوى المياه. تبدو الخريطة الأميركية مثل شريحة أفقية كبيرة ممتدة من الشرق إلى الغرب أي من المحيط الأطلسي إلى المحيط الباسيفيكي، ولكن أميركا نجحت ـ بثقلها الدولي الطاغي ـ في تبديل علاقتها الجغرافية بتوازنات سياسية مغايرة مع دول العالم المختلفة؛ بحيث أصبحت هي الجالسة في بداية العالم بين مياه المحيطين، في حين تجلس باقي دول العالم عند نهايته!

تبلغ مساحة أميركا حوالي 9.83 مليون كيلومتر مربع، وهي رابع أكبر بلد في العالم من حيث المساحة بعد روسيا وكندا والصين، في حين يبلغ عدد سكانها حوالي 305 مليون نسمة لتحتل بذلك المركز الثالث عالمياً من حيث عدد السكان بعد الصين والهند. وبعيداً عن التصنيفات السياسية والأيديولوجية ـ على أهميتها في التقييم ـ يحتم الموقع الجغرافي على أميركا أن تكون قوة بحرية بكل ما لهذا المصطلح من معان وتبعات. ولهذا فقد ورثت أميركا زعامة القوى البحرية في العالم من إنكلترا في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ويتمتع مواطنو الولايات المتحدة بسبب هويتها البحرية الصافية بفائض كبير من قيم الحرية والطموح الفردي غير المحدود، في حين تعتبر بلادهم أن المحيط الذي يفصلهم عن جغرافيا العالم الشرقي، أي العالم من دون كندا وأميركا اللاتينية، هي خط دفاعهم الأول. وبالفعل لم تجرؤ أي قوة في التاريخ الحديث على غزو الولايات المتحدة الأميركية بعد إعلان استقلالها، و لم يفكر الاتحاد السوفياتي السابق أو ألمانيا النازية ـ حتى مجرد التفكير ـ في غزو الأراضي الأميركية بسبب المحيط الأطلسي الذي يقف كحائط صدٍ جغرافي طبيعي للدفاع عن أميركا. ولكن في الوقت نفسه، يُعتبر المحيط عائقاً جغرافياً كبيراً أمام أميركا للتفاعل بجدية مع باقي العالم، ولذلك وجدنا واشنطن الساعية للهيمنة على العالم بقوتها العسكرية الكاسحة تتخذ لنفسها قواعد بحرية وعسكرية على امتداد اليابسة، كما أن أسطولها البحري الأكبر في العالم يمخر عباب كل البحار والمحيطات وبمسافة قوة هائلة تفصله عن باقي الأساطيل البحرية في العالم.

صنع المحيط الأطلسي عظمة أميركا في الواقع، وهو الذي يتحكم في أقدارها منذ استقلالها وحتى الآن. إذ إن الجغرافيا هي قدر الأمم الذي لا فكاك منه. تنهض بعدما احتسيت قهوتك أمام المحيط الأطلسي وقد امتلكت مفتاح المعرفة الجغرافية التي قدت وشكلت هوية أميركا وتاريخها، كلمة السر فيما بلغته أميركا من قوة جبارة هو التحدي الخرافي المسمى بالمحيط الأطلسي. حتى الآن كانت أميركا على مستوى التحدي فاكتسحت العالم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً منذ الحرب العالمية الثانية وحتى سنوات قريبة مضت، ونقلت معارك سيطرتها على العالم إلى ما وراء المحيط، إلا أن تزحزح بؤرة القوة في النظام الدولي الراهن جراء الصعود المتوقع لقوى دولية أخرى خلال العقدين المقبلين مثل الصين، من شأنه أن يهدد هذا الاكتساح وتلك السيطرة وصولاً إلى مقاسمة واشنطن نفوذها العالمي في المدى المتوسط، وهو أمر لا يبدو أن هيلاري كلينتون أو دونالد ترامب سيستطيعان كبحه بسـهولة مهما كانت نتيجة الانتخابات الرئاسية!

نشرت للمرة الأولى في "السفير"