هل جُنّت دمشق؟

14.09.2016

منذ تفجير الأزبكية الذي هزّ دمشق في العام 1981، وما تبعه من صراعٍ بين الدولة و «الإخوان المسلمين»، لم تعرف المدن السورية عامةً، والعاصمةُ خاصةً، مظاهرَ مسلّحةً تحاكي تلكَ الّتي تنتشرُ اليومَ في كلّ شارعٍ وكلّ زقاق.

في العام 2003، كانت حدود البلادِ مع العراق تحترق. في العام 2006 خاضَ لبنان حربَ تمّوز ضد الكيان الإسرائيلي. في العام 2008 شنّ الإسرائيليون حرباً داميةً على قطاع غزّة. السوريّون كانوا شهودَ تلفازٍ على الانعطافاتِ السابقة كلّها. احتضانُ اللاجئين والالتفافُ حول المهجّرين كان واجباً ولزاماً على سكّان دمشق، لكنّ معايشة أولئك المنكوبين لا تعني أنّ الشّام خبرت التعاملَ مع الحرب ويوميّاتها.

البحث عن مفردةٍ أو مصطلحٍ يوصّف حال دمشق اليوم أمرٌ معقّدٌ للغاية، فالمدينةُ منهكةٌ تماماً، لكنّها بهية. أطرافها ملتهبةٌ، لكنّ الحياة ضمنَ العاصمة تبدو أقربَ إلى الطبيعية. الحكومة السابقة رفعت أسعار الأساسيّات مراراً بحجّة دعم الخزينة، لكنّ وزير ماليتها، الذي دعا الشعب غير مرّةٍ إلى التقشّف وشدّ الحزام، لم يجد حرجاً في إقامة حفلِ زفاف مترفٍ لابنه في أفخم فنادق المدينة. نشراتُ الأخبار الرسمية تلعنُ ممارسات العرب حيالَ سوريا، وطلّاب المدارس يردّدون كلّ صباح «أمّة عربية واحدة ذات رسالةٍ خالدة».... تُرى هل جُنّت دمشق؟

حين بدأت الحرب، تراجع حضور الدولة، وضعفت القبضة الأمنية نسبياً، فطفا كلّ سوادِ القاع نحو السطح. الإسلامُ الشاميّ انحسر لصالح تيّار راديكاليّ أثبت أنّه يحظى بتأييد طيفٍ شعبيّ واسع. ظاهرة «التشبيح» عادت إلى الواجهة بأبشعِ تجلياتها. الأغنياءُ ازدادوا غنىً، والفقراءُ ازدادوا شقاءً وتعاسة.

في دمشق الحرب، صار البعضُ يصرف على طاولةِ عشاءٍ واحدة ضعفَ ما يجنيه الموظّف البسيطُ في شهرين اثنين. في دمشق الحرب، ينامُ بعضُ المُهجّرين على عشب الحدائق، بينما يجد بعضُ التجّار مشكلةً في إيجادِ مستودعاتٍ آمنةٍ يُخفون فيها ثرواتهم المتضخّمة. في دمشقَ الحرب، هناكَ أطفالٌ يسكنونَ زوايا الشارع، بكلّ ما تعنيه مُفردة «السُكنى» من دلالة، تراهم أشباه سكارى ونائمين على حجرٍ بارد، والسيّارات ذاتُ الزجاج الأسود تطوف حولهم غير مكترثةٍ بشيء.

في دمشق، الهاونُ يدكّ هذا البناء ويُبيد سكّانه، لتجد سكّانَ البناءِ المجاور يخرجون بُعيد نصفِ ساعةٍ للرقصِ والسّهر حتّى طلوعِ الفجر.

ربمّا يكون هذا التضادُ فعلَ مقاومة من طرازٍ ما. يحقّ للناس أن يقاوموا الحربَ بالفرح، ويحقّ لهم أن يديروا ظهورهم للخراب الّذي استراح بينهم طويلاً. انتظارُ خفوتِ صوتِ الرّصاص قد يطولُ. لا بأس، إذاً، بإعلاءِ صوتِ الموسيقى.

دمشقُ ليست فريدةً في فصامها. كلّ العواصمِ المجاورة، الّتي زارتها الحربُ يوماً، قدّمت نماذج مماثلةً عن «غياب هوية وطنية للبلاد».

في حرب تمّوز الإسرائيلية، احترقت قرى الحدود الجنوبية اللبنانية. النار التهمت جزءاً واسعاً من بيوت الضاحية الجنوبية لبيروت. سلاحُ الجوّ الإسرائيليّ قطّع أوصال العاصمة اللبنانية ونسف الجسور وقصف المستشفيات. سُكّان البقاع الشمالي حزموا حقائبهم وقصدوا دمشق ومدناً سوريّة أُخرى هرباً من ذكرياتِ قانا و»عناقيد الغضب». لبنان كلّه كان ينبضُ على وقع الأخبار العاجلة، لكنّ بعض المناطق لم تقفل ملاهيها، وظلّ «السهّيرة» يقصدون باراتها كما لَو أنّ سماءَ البلادِ لا تُجتاح، وكما لو أنّ أرضَ البلادِ لا تُشوى. وإذا كان طولُ أمدِ الحرب السوريّة يُبرّر للسوريين «مللهم من الموت» وتمرّدهم عليه رقصاً وسهراً، فإنّ ثلاثةً وثلاثينَ يوماً لا تُعدّ زمناً طويلاً في قاموسِ الحروب، وليست مدّة كافيةً لجعلِ «الشعب اللبناني» يتفسّخ بين متضامنٍ مع ضحايا الحرب وبين متجاهلٍ لهم.

في لبنان، كما في سوريا، كما في العراق، كما في كلّ بلدٍ لا ينتصرُ لقيمِ المواطنة، يصيرُ الانتماءُ للوطنِ في آخر سلّم الأولويات.

المُشكلة الرئيسة تكمنُ في عدم الاشتغال على الانتقالِ بسكّان هذه البلادِ من مفهومِ «الرعيّة» إلى مفهوم «الشعب». ماذا لو جرى إقناع طائفةٍ ما بأنّ حرباً ستُشنّ بغرضِ محو أثرها من جغرافية المنطقة؟ ردّ الفعل حينها سوف يأتي «مزلزلاً» بكلّ ما تعنيه المفردة من معنى، ولن يكونَ هناكَ مكانٌ للتجاهلات والرؤوس المدفونةِ في التراب. الأمرُ يتعلّق ببوصلة الولاء ودرجة الانتماء.

في دمشق، كما في بغداد، كما في بيروت، كما في كلّ عاصمة بلدٍ لم يكتسب شعبه هويّة وطنيّة جامعة، لا تستطيع أن تُطالبَ النّاس بالوقوفِ صفّاً واحداً في زمنِ الحرب ما لم تكن قد ساويت بينهم في زمنِ السّلم، ولا تستطيع أن تخوّن من يرى «أنّه ليس مطالباً بتقديم شيء لبلاده في زمنِ الحرب»، طالما أنّ بلاده لم تقدّم له شيئاً في زمنِ السّلم. وبعبارةٍ أبسط: لا تستطيع أن تطالب من أُذلّ في بلده يوماً، بأنّ يُعزّ بلده في غير يوم.

نشرت للمرة الأولى في "السفير"