السوخوي من همدان إلى «شجرة التين»!

19.08.2016

في قراءة «الحراك» الروسي الجديد، لا يمكن الانطلاق من قاعدة التبديل الكولونيالي الذي لطالما حدد الخطوط العامة للمتغيّرات المرتبطة بعلاقة بلدان المنطقة بالدول الاستعمارية وورثتها اليوم. ما يعني أن دخول روسيا لن يكون من الباب الذي خرجت منه الولايات المتحدة أو الذي تتحضر للخروج منه في نهاية المطاف، خاصة أن طبيعة الرقعة الاستراتيجية لا تفترض يسراً في هذا «الانقلاب». إذ تترك أميركا من خلفها مجموعة «أصدقاء» أقوياء لا يمكن أن تفرض موسكو عليهم تحالفاً أو تبعية مهما بلغت درجة اهتزازهم، كما جرى مع منطقة شمال القوقاز التي انتزعتها من إيران قبل قرن من الزمن. فطبيعة المنطقة فضلاً عن طبيعة الدول الكبرى الخاضعة لتوازنات دقيقة تفرض مجموعة مختلفة من أدوات «الحضور» والتوسع، على ألا تشكل «نكسة» في الميزان الاستراتيجي الأميركي، إنما قبولاً بواقعية انفتاح المنطقة الدائم على «الرعاة» الخارجيين، نظراً لهشاشة العلاقات البينية، وبمنسوب أقل، هشاشة الأنسجة المكونة للدول القومية في «الشرق الأوسط الكبير».

دخول روسيا الاتحادية إلى مياه الخليج العربي كان دائماً «الغاية» النهائية لاستراتيجية موسكو في المنطقة. لكنها اصطدمت دوماً بمجموعة محاذير تبدأ بتشعب علاقاتها التاريخية وقلّة أصدقائها، وتنتهي باحتمال قائم دوماً مفاده التصادم مع الولايات المتحدة نظراً لمركزية الشريان النفطي العربي تاريخياً في العقل الاستراتيجي الأميركي، إضافة إلى احتواء إيران وحماية إسرائيل من تحولات في الأنظمة، من شأنها أن تنتج بالمفهوم الأميركي نخباً «مارقة» ومغامرة تنحو باتجاه صناعة أو تجديد خطابة قومية أو إسلامية تسوّق لمركزية القضية الفلسطينية. وعلى هذا المنوال فشلت روسيا ومن قبلها الاتحاد السوفياتي في الحصول على موطئ قدم في الخليج، برغم الفرص التي أتاحتها نماذج كالنظام «البعثي» في العراق والإسلامي في إيران، وبنسبة أقل، النظام الاشتراكي في اليمن الجنوبي سابقاً، والنظام «المشاكس» في اليمن الموحد إبان حكم الرئيس علي عبدالله صالح لاحقاً.

يقول عالم الاجتماع الفرنسي، والباحث فـي معهد الدراسات السياسية الفرنسية كليمون تيرم في كتابه Les Relations entre Téhéran et Moscou depuis 1979 إن «طهران تنشط في سياستها الخارجية ضمن محاولة دائمة لإحداث لقاء قسري بين خلفيتين: الأولى تكمن في الحفاظ على المصالح الدولية المتبادلة مع روسيا، في مقابل «كبت» أو حصر طموحاتها الثورية في مرتبة ثانوية. بينما في الخلفية الثانية اعتماد قوي على هـويـة وطنية معادية للنظم الغربية، وبـالـتـالـي يمكن الـحـديـث عـن تجاوز الـمـخـاوف الأيديولوجية بشكل كبير للاعتبارات الـبـراغـمـاتـيـة والـمـصـالـح الـمـشـتـركـة، وهذا ما منع الاتحاد السوفياتي من اختراق الساحة الإيرانية للوصول الى شواطئها الدافئة.

هكذا ارتكزت إيران «الإسلامية» إلى موقف موسكو الغامض والملتبس من حربها مع العراق في ثمانينيات القرن الماضي، لصياغة سياسة «روسية» خاصة بها، إضافة إلى الموقف «المبدئي» المتمثل بالخلاف العقائدي بين السوفيات وإيران الإمام الخميني، والذي اختصره شعار «لا شرقيّة ولا غربيّة» بداية الثورة، بما يحمله من قدرة كامنة على صناعة عناصر قوة ما وراء حدود ايران، وبحيّز مناورة مختلف عن الانقسام العمودي وقتها ما بين «أصدقاء» للسوفيات أو الأميركيين. علماً بأن ذلك كان يحصل بمعزل عن تركة الحروب التاريخية بين الإيرانيين والروس، وبما يضمن عدم تكرار تجربة «معاهدة تركمانجاي» للسلام بين الإمبراطورية الروسية والدولة القاجارية الإيرانية التي أنهت الحرب الروسية الفارسية العام 1828 واقتصّت الكثير من ثروات إيران. في المقابل، فإن التقرب الروسي من إيران كان شديد الخجل طوال سنوات ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. إذ لم تكن القضية بمنظور إدارة بوريس يلتسن تستأهل التخلي عن سياسة الانكفاء الروسي، وكذلك الانفتاح على منافس دائم لروسيا في القطاع النفطي الدولي، والأهم ما تمثله إيران من تهديد دائم لحصة الروس في سوق الغاز الأوروبية حتى اليوم.

بدت إيران في مرحلة ما بعد انطلاق «الربيع العربي» أكثر قابلية للاندماج ضمن منظومة الأمن القومي الروسي ومحدداتها. إذ فرض التراجع الأميركي المتتالي بحثاً جدياً من دول المنطقة عن حليف قوي يمكن أن يضمن لهم مروراً سلساً في مرحلة الفوضى القائمة حالياً. هكذا، ضمن الروسي عملية تحويل الإيراني من صديق «لدود» إلى حليف «وثيق»، طالما أن الجمهورية الإسلامية حصلت على صك براءة من تهمة «الشر» التي ألصقتها بها الإدارة الأميركية في عهد بوش الإبن، ثم نزعته عنها موضوعياً في أعقاب الاتفاق النووي بين طهران والدول الكبرى، وبالتالي عودة طهران مجدداً إلى السوق الدولية كعنصر كامل الفعالية. ما يعني أن لا حرج لدى الروس اليوم في الانفتاح على الاحتمالات المتعلقة بتطوير العلاقة مع إيران، خاصة أن «الزبدة» تكمن في مياه الخليج وشواطئه.

جاء إعلان موسكو عن تنفيذ قاذفات تابعة لها ضربات جوية في سوريا انطلاقا من قاعدة جوية في مدينة همدان الإيرانية، بمثابة الركيزة الأساسية التي سيبني عليها الروس وكذلك الايرانيين منظومة متكاملة وجديدة لأمنهما القومي، تقوم على مجال حيوي مختلف وربما متضارب مع ما صاغته واشنطن طوال القرن الماضي. فقد عكس التسرع الروسي في إعلان الأمر حماسة منقطعة النظير من موسكو، مفادها أن إيران أصبحت اليوم حليفاً كامل العضوية في الرؤية الاستراتيجية الدولية للروس، خاصة أن الإعلان غير المنسق هذا تسبب بحرج للإدارة الإيرانية بعد توجيه النائب الإيراني حشمت الله فلاحت بیشة إنذاراً للحكومة بسبب إخلالها بالدستور الإیراني وفقاً للمادة 146، التي تمنع منح أي قواعد عسکریة لأی جهة أجنبیة، وإن كانت لأغراض «سلميّة». ما يعني أن طهران تحتاج بعض الوقت لإحداث تغييرات دستورية تشرّع من خلالها طبيعة العلاقة الجديدة مع الحليف الروسي.

لا شك بأن التعاون الروسي الايراني الجديد سيركز في الباب الأول على محاولة إنهاء الحرب الأهليّة السورية، بما يكفل الحفاظ على مصالح الدولتين المشتركة، وكذلك مصلحة الحليف السوري. لكن الدائرة الأوسع ستعمل وفق آلية «استقطاب» جديدة تحاول من خلالها روسيا ومعها إيران استجلاب عدد من حلفاء الولايات المتحدة، خاصة من ينشط في حيّز «وسطي» في ظل الانقسام القائم حالياً، أو من أجبرته مخرجات الفوضى لاتباع مسارات سياسية مختلفة. وعلى هذا المنوال بدا الانفتاح الروسي على الاحتمالات كافة وفي مدة زمنيّة قياسية في محاولة الخروج برسم بياني يوضح النسق التصاعدي لنشاطها في الشرق الأوسط، واستعدادها للانخراط في عملية إعادة هيكلة تامة لتحالفات الماضي وخلافاته. وعلى هذه الشاكلة يمكن الخروج بتقدير للموقف، بناء على التغيّر النسبي في سياسة موسكو تجاه الأزمة اليمنية، وصولاً إلى «انفتاحها» على مسألة استخدام قاعدة أنجرليك التركية، لتكون «شجرة التين» هذه، حتى وإن لم يحصل الأمر، مدخلاً لإعلان الشرق الأوسط دائرة محورية للنفوذ الروسي، ومنطلقاً لصناعة تحالف اقليمي ـ دولي جديد.

نشرت للمرة الأولى في "السفير"