معركة الليبراليين والوطنيين من أجل مستقبل الاقتصاد الروسي
تنظر السلطات الروسية في أي الطرق أفضل لتعزيز التنمية الاقتصادية. وفي الوقت الراهن، هناك وجهتا نظر واضحتان حول هذا الأمر.
على مدى العامين الماضيين، على خلفية الأزمة الاقتصادية والانخفاض الحاد في أسعار النفط، كان لدى الحكومة الروسية نتائج ضئيلة أو معدومة في مجال الاستراتيجيات طويلة الأجل للتنمية الاقتصادية. وبدلا من الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية، اتبعت السلطات الروسية اجراءات آنية لمكافحة الازمة.
وعلى الرغم من أن الأزمة لم تنته بعد، فإن الضغط قد ضعف بشكل واضح. معدل الانخفاض في الناتج المحلي الإجمالي انخفض ليبلغ ثلث ما كان عليه قبل عام واحد فقط، والتضخم انخفض إلى نصف ما كان عليه من قبل، وتسرب رؤوس المال من البلاد، انخفض بمعدل خمسة أضعاف.
باختصار، حصلت السلطات الآن على فسحة لإلتقاط أنفاسها، ويمكنها العودة إلى عملية وضع خطط التنمية طويلة الأجل. وعلاوة على ذلك، الانتخابات الرئاسية ليست بعيدة جدا، والمرشح الرئيسي - الرئيس الروسي فلاديمير بوتين - ببساطة لا يمكنه أن يترشح للفترة الثانية دون برنامج اقتصادي واسع النطاق.
كودرين ضد غلازييف
لمساعدته على حل هذه المشكلة، استدعى بوتين في الربيع الماضي، صديقه القديم وزميله اليكسي كودرين، الذي كان قد خدم لسنوات عديدة في منصب وزير المالية. وكان كودرين قد دخل في صراع مع الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف، ما أسفر عن استبعاده من منصبه.
وحتى وقت قريب، كان كودرين يراقب الأحداث من على مقاعد الإحتياط. ومع ذلك، أعاده بوتين الآن إلى إطاره الاقتصادي، في مركز الدراسات الاستراتيجية، الذي صاغ البرنامج الاقتصادي لبوتين قبل ولايته الأولى في العام 1999.
ومع ذلك، لم يتم منح كودرين تفويضا مطلقا وكاملا. والحقيقة هي أن وزير المالية السابق ينتمي إلى معسكر "الليبراليين"، الذي يشمل العديد من القيادات الحالية للقطاعات المالية والاقتصادية في البلاد، مثل الفيرا نابيولينا، رئيسة البنك المركزي. واليكسي اوليوكاييف وزير التنمية الاقتصادية. وأنطون سيلوانوف وزير المالية الحالي (الذي كان لسنوات عديدة نائب وزير المالية في عهد كودرين). ولذلك، من الواضح أن برنامج كودرين الجديد سيكون ليبراليا.
ومن الواضح أن الأفكار الليبرالية، بما في ذلك في المجال الاقتصادي، لا تخدم مصالح روسيا اليوم. إذ أصبح من المألوف إلقاء اللوم على الليبراليين في جميع علل البلاد، بدءا من التسعينات العصيبة في عهد يلتسين. ما جلب الى الواجهة ما يسمى "الوطنيين" - أولئك الذين يفضلون حكومة مركزية قوية تسيطر على كل المجالات، بما في ذلك الاقتصاد.
ونتيجة لذلك، تلقى ممثلو المعسكر "الوطني" أيضا دعوة للمشاركة في وضع استراتيجية للتنمية الاقتصادية، وذلك باستخدام وصفاتهم المفضلة. ويمثل الوطنيين، عضو "نادي ستوليبين" الإقتصادي، مستشار الرئيس والأكاديمي البارز، سيرغي غلازييف، وأمين المظالم في قطاع الأعمال والقيادي في حزب "روست"، بوريس تيتوف، ونائب رئيس "فنيشايكونوم بانك" ونائب وزير التنمية الاقتصادية السابق، اندريه كليباتش. (يذكر أن نادي ستوليبين يحمل هذا الإسم نسبة لبيوتر ستوليبين، المصلح الاقتصادي الأسطوري في أواخر عهد روسيا الإمبراطورية).
وبينما يمكن لكودرين الاعتماد على الدعم لبرنامجه من قبل أقرانه الليبراليين في الحكومة والبنك المركزي، يعتقد أن أعضاء نادي ستوليبين، لديهم أيضا راع قوي، وهو مساعد الرئيس للقضايا الاقتصادية، اندريه بيلوأوسوف. والمعركة بين الاستراتيجيتين، يمكن وصفها بأنها قد بدأت للتو. ففي الوقت الراهن، ليس من الواضح أي من الاستراتيجيتين سيختار بوتين خطته، كتوجه أساسي للمستقبل القريب.
هل سيتم استخدام مطبعة النقود؟
حتى الآن، لم يتم وضع الاستراتيجيات المتنافسة بعد، والمناقشات العامة حولها لم تبدأ. صحيح أنه في شهر مايو/أيار، تمت مناقشة المفهومين خلال اجتماع هيئة المجلس الرئاسي الاقتصادي، ولكن فقط وراء أبواب مغلقة. ومع ذلك، على مدى الشهرين الماضيين، أصدر الجانبان عددا كافيا من البيانات، وسمحا ببعض "التسريبات" التي يمكن أن توفر أساسا للحكم على محتوى البرامج المستقبلية.
في ديسمبر 2015، أصدر ممثلو نادي ستوليبين تقريرا، على ما يبدو، سيشكل الأساس لاستراتيجيتهم. وحوى التقرير الخطوط العريضة لكيفية تعزيز النمو الاقتصادي في البلاد. إذ اقترحوا زيادة الاستثمارات وضخ أموال الميزانية في الاقتصاد، وطباعة البنك المركزي لمبلغ 1.5 تريليون روبل. وفي نفس الوقت، طرحوا فكرة إلغاء "التعويم الحر" للروبل، عن طريق الحصول على سعر صرف يحدده البنك المركزي، مع الحد من هجمات المضاربة ضد العملة الوطنية.
في المرحلة الثانية، هم يخططون لجعل النظام الضريبي متماشيا مع المعايير المستخدمة في البلدان المتقدمة. على وجه الخصوص، هم يدعون إلى عودة الضريبة الاجتماعية الموحدة، التي ألغيت في العام 2010، فضلا عن تخفيض العبء الضريبي على الشركات من 49٪ حاليا، إلى مستوى 41 في المئة. وقد وصفوا هذه التدابير بأنها "لينة" لتنظيم أسعار صرف العملة، فضلا عن دعوتهم لإجراء إصلاحات في مجال القوانين والنظام القضائي وبعض جوانب برنامج معاشات الشيخوخة.
وتم اقتراح مفهوم مختلف من قبل مركز الدراسات الاستراتيجية برئاسة كودرين. فبرأيه، يجب على الاستثمارات أن تأتي من القطاع الخاص، وعلى الدولة تهيئة الظروف المواتية لذلك - من خلال ضمان استقرار الاقتصاد الكلي، وانخفاض التضخم وخفض العجز في الميزانية. وهذا يعني أيضا تنفيذ إصلاحات، وكذلك إنهاء حالة برودة العلاقات مع الغرب، والحد من التوترات السياسية والسعي لاستجذاب الاستثمارات الأجنبية.
وبالإضافة إلى ذلك، لا يعتقد كودرين أن النمو الاقتصادي يعوقه عدم وجود المال، والذي يزعم البعض ان البلاد بحاجة إلى طباعته. الحسابات المصرفية للشركات تراكم حاليا مبلغ 14 تريليون روبل، وهذا يكفي لتلبية احتياجات الاستثمار في البلاد لمدة عام واحد. ومع ذلك، وفقا لكودرين، في الظروف الحالية، الأعمال التجارية ببساطة تفضل عدم استثمار هذه الأموال، بل تحتفظ بها احتياطا لـ"الأيام السوداء".
كما أن الشركات السلعية أيضا لديها مخزون من المال، وهي لا تخطط لاستثماره. هذا المال "يجلس" في الحسابات المصرفية، ويكسب عوائد جيدة للغاية نظرا لارتفاع أسعار الفائدة. ووفقا لرأي تيتوف الطلب على النقود السهلة ضخم - إذا تم الإعلان عن توافر القروض بأسعار فائدة أقل من أسعار السوق، فإننا سنشهد إقبالا غير مسبوق.
ويشير تيتوف إلى خطة منافسه كودرين بأنها برنامج "اقتصاد كسول". ووفقا له، خطة كودرين، تنطوي على استهداف التضخم واتباع سياسة مالية صارمة، وهذا لا يعني إجراءات فعالة - يحتاج المرء فقط أن ينتظر من أجل أن يتكيف الاقتصاد مع الظروف الخارجية. من جانبهم، كودرين وأنصاره مقتنعون بأن التحفيز الفعال للاقتصاد، ممكن بدون استخدام مطبعة الأموال وإصدار قروض رخيصة، وهذا الأمر الذي يدعو إليه نادي ستوليبين، برأيمودرين، سيؤدي في نهاية المطاف، إلى تسريع التضخم وتقلب أسعار الروبل.
معضلة ما قبل الانتخابات
هذه المفاهيم المتنافسة تمتلك فقط نقطتين مشتركتين، وهذا الأمر بدا واضحا على الفور بعد مناقشات مايو/أيار في المجلس الاقتصادي. إذ تم التوافق على الحاجة، على مدى السنوات الـ10 المقبلة، للحد من حصة الدولة في الاقتصاد - من النسبة الحالية 50 زائد واحد في المئة، إلى 35 في المئة فقط، وكذلك على حقيقة أن القطاع الرمادي الاقتصاد المحلي، يجب إخراجه من الظل.
الاختلافات في النهج، أكبر من هاتين التقطتين التوافقيتين بكثير. ولذلك، من الواضح أنه ليس من الممكن الجمع بين البرنامجين، استنادا إلى المبادئ الأساسية المعاكسة، ببساطة لن يكون من الممكن تعديلها. وعلى السلطات أن تختار، وعلى الأرجح، الكلمة الأخيرة ستكون لبوتين.
أي من الخطتين سيختارها بوتين في النهاية؟
ببرنامجه، يجبر كودرين رئيس الدولة على الخيار الصعب - إما الأهداف الطموحة السياسية والركود الاقتصادي، أو الأهداف السياسية المتواضعة والنمو الاقتصادي المعتدل. منطلق وزير المالية السابق قوي، لأنه سيحافظ على الاحتياطيات المالية للحكومة والبنك المركزي، والتي، بدورها، ستضمن أمن الدولة.
ومع ذلك، من غير المرجح أن ينظر بوتين بعين الرضا إلى موقف كودرين الانهزامي، الذي ينطوي على الحديث عن التخلف وانعدام الثقة في المستقبل الإيجابي، فضلا عن الاقتناع بأن روسيا لا يمكنها الاعتماد على نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة أربعة في المئة في السنوات المقبلة.
وينطبق الشيء نفسه على الحديث عن تحسين العلاقات مع الغرب: بوتين أعلن بوضوح أن روسيا لن تبيع سيادتها. ومع ذلك، يعتقد كثير من الخبراء أنه في نهاية المطاف، ستعطى الأولوية لبرنامج كودرين. ففي النهاية، بوتين، خلال سنوات حكمه، أظهر نفسه على أنه وطني بالمعنى السياسي، ولكن في الوقت نفسه، كان يفضل دائما التوجهات الليبرالية عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد.
ويقول اندريه موفتشان، مدير برنامج السياسة الاقتصادية في "مركز كارنيغي" في موسكو، إن نهج غلازييف تم اختباره في العديد من البلدان، مثل زيمبابوي وفنزويلا. في كل هذه الدول، حقق البرنامج النتائج الهزيلة نفسها، وبالكاد روسيا ستكون استثناء.
وأضاف موفتشان "يبدو أن الحكومة تدرك هذه الحقيقة، وباستخدام النظريات الهامشية والحجج الداعمة لها، وعبر المقارنة الوسطية والمتوازنة، ستتبع نهج كودرين الواضح تماما، على الرغم من أن التفاصيل ستتم المجادلة فيها، وعلى وجه العموم، من المرجح أن وصفات كودرين ستمنح البلاد فرصة للخروج من الركود".
وفي الوقت نفسه، يعتقد المحلل السياسي المعروف يفغيني مينتشينكو أنه قبل انتخابات عام 2018، سيحتاج بوتين لخلق نوع من نظام "الضوابط والتوازنات" في مجال البرمجة الاستراتيجية. في الوقت الراهن، الاستراتيجيات التي تتم كتابتها أو المعتمدة بالفعل، تستخدم من قبل السلطات، لإرسال إشارات إيجابية للناخبين جميعهم- سواء من الجانب الليبرالي، أو من أنصار الوطنيين.
وعلاوة على ذلك، الشائعات القادمة من أروقة السلطة العليا، تشير إلى أن العديد من الأشخاص المهمين في حاشية بوتين - مساعده بيلوأوسوف ورئيس الوزراء ميدفيديف- غير راضين عن التعزيز المفاجئ لتأثير كودرين، والشائعات حول احتمال عودته الى السلطة. وإذا حدث ذلك، فإن العديدين سيضطروا لإفساح المجال له، ولتقاسم المسؤوليات.
ومع ذلك، ذكر ميدفيديف مؤخرا أن "مطبعة النقود" بشكل قاطع، لا يمكن أن تستخدم في هذه الحالة، في اشارة الى اقتراح نادي ستوليبين لإصدار قروض رخيصة.
وقال مدفيديف واصفا مثل هذه الأفكار بـ"الخطير": "على الورق، يبدو كل شيء عظيما، ولكن يمكن أن تكون النتيجة تضخم ليس بمعدل 6 في المئة كما نأمل أن يكون في العام المقبل، ولكن أكثر من ذلك بكثير".
ويشارك رسلان غرينبرغ، المدير العلمي لمعهد الاقتصاد التابع للأكاديمية الروسية للعلوم، رئيس الوزراء مدفيديف نفس وجهات النظر.
ويقول غرينبرغ "الاستخدام العشوائي لسياسة التيسير الكمي النقدية، والتي تستخدم حاليا في أوروبا وأمريكا لتحفيز اقتصاداتها الوطنية، غير مناسبة تماما بالنسبة لبلادنا"، وأضاف "لذلك، في هذه المسألة، أنا أقف إلى جانب قيادة البنك المركزي، التي تعتقد أن ضخ العملة غير المضمون في السوق، سيؤدي فورا إلى ارتفاع معدل التضخم."
وأشار إلى أنه "نظرا لحقيقة أن عدد قليل جدا من المنتجات يتم إنتاجه في روسيا اليوم، وكثير منها تكون احتكارية، فإن أي زيادة في السيولة ستؤدي تلقائيا إلى قفزة في معدل التضخم".
ويشكك الزميل البارز في معهد غايدار للسياسة الاقتصادية، سيرغي جافورونكوف، أيضا في الفكرة الأساسية لأعضاء نادي ستوليبين. وقال "هناك حاجة لطباعة الكثير من المال، وهذا لن يفيد بشيء"، مشيرا إلى أن "المعروض النقدي في روسيا ينمو بسرعة كبيرة."
وفي الوقت نفسه، إذا لم يحظ أي من البرامج المتنافسة برضى رئيس الدولة، أو إذا فشلوا في إيجاد سياسة وسطية، قد لن يتم في الواقع تنفيذ الاستراتيجية النهائية أبدا. على سبيل المثال، مفهوم التنمية حتى عام 2020 طويل الأجل، والاستراتيجية الاقتصادية السابقة له، عانت من مثل هذا المصير.
البرنامج التنموي الذي وضع في نوفمبر/تشرين الثاني 2008، كان متفائلا بتحقيق أهداف طموحة جدا. ومع ذلك، تمكنت اثنتين من الأزمات الاقتصادية من تقويض أهدافه. حاليا، لا أحد يريد أن يتذكر ذلك، لسبب وجيه. وفقا للخبراء، تم تنفيذ أقل من 25 في المئة من أهدافه. ولذلك، فإن نفس المصير يمكن، في النهاية، أن ينتظر البرنامج الجديد، الذي يتصارع الليبراليون والوطنيون من أجله.
وقد أدى ذلك إلى نقاش لا مفر منه، حول إمكانية ايجاد خيار وسط ممكن. ويعتقد موفتشان أنه، في الواقع، لا نهج كودرين ولا نهج غلازييف لديهما أي فرص للتنفيذ، وسوف تتبع روسيا مسارا "متوسطا". فكيف سبيدو هذا الأمر؟ السلطات لن تجرؤ على تنفيذ إصلاحات ليبرالية، ولكنها ستواصل الحافظ على سياسة نقدية معقولة. وهذا سيؤدي إلى ركود اقتصادي أو ركود معتدل، سيمتد لسنوات.
لحسن الحظ، هذا البلد لا يزال لديه احتياطيات ضخمة من القوة. روسيا لا تزال لديها احتياطيات دولية كبيرة (حوالي 395 مليار دولار) في حين أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي السنوي لا يزال عند معدل 8500 دولار، بدلا من 2000 دولار، كما هو الحال في بعض الدول المجاورة. ويمكن لروسيا أن تخسره 1-2 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي سنويا، لسنوات عديدة، في ظل الحد التدريجيا من ميزانيتها الدفاعية ومن الإنفاق على المشاريع الضخمة، والتكاليف البيروقراطية.
وقال موفتشان "عندما يتحدث بوتين عن الاستقرار باعتباره أولوية، اعتقد انه صادق. وأعتقد أنه، ببساطة، لديه منطقه الخاص، ووفقا له، الاستقرار والركود المعتدل أفضل بكثير من النمو غير المستقر. وهذه الطريقة التي يتصرف بها - طريقة براغماتية واضحة، ودون تجاوزات".