«زلّة إنجيرليك» والتلاعب التركي بين السياسي والعسكري والاقتصادي

05.07.2016

لم تكد تركيا تعلن عن دعوتها روسيا لاستعمال قاعدة إنجيرليك الجوية لمحاربة الإرهاب في سوريا، حتى عادت وتراجعت عن هذه الدعوة. وجاء الموقف التركي المستمر في التباساته السورية، فيما تبادلت واشنطن وموسكو الإشارات مجدداً على رغبتهما في التعاون على الصعيدين السياسي والعسكري في سوريا، في وقت تراوح جبهات القتال وخيارات التفاوض في مكانها.

وبينما أعلن سفير الولايات المتحدة لدى موسكو جون تيفت، أن واشنطن تعمل مع روسيا على البحث عن «سبل اعادة نظام وقف إطلاق النار في سوريا من اجل إطلاق عملية التسوية السياسية»، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في يريفان، إن العسكريين الروس والأميركيين «يتواصلون يومياً»، مشيراً إلى أن «الجانبين يبحثان مسائل محددة تتعلق بضرب المواقع التي يسيطر عليها الإرهابيون». لكن لافروف اشار الى أن موسكو «لا تزال تسعى جاهدة من أجل تنفيذ شركائها الأميركيين لتعهداتهم القديمة بفصل الجماعات المعارضة التي تتعاون مع التحالف الدولي وقيادة واشنطن عن تنظيمي داعش وجبهة النصرة»، مضيفاً أن «فصلاً كهذا لم يتم تحقيقه في كل الأماكن، بما فيها منطقة حلب، وهو الأمر الذي يثير قلقنا».

وجاءت المواقف الأميركية والروسية هذه فيما قال جاويش أوغلو في مقابلة مع محطة «تي.آر.تي. خبر» أمس الأول «سوف نتعاون مع أي شخص يقاتل داعش. نقوم بذلك منذ فترة طويلة وفتحنا قاعدة إنجيرليك لهؤلاء الذين انضموا للقتال النشط ضد داعش». وأضاف «لِمَ لا نتعاون مع روسيا كذلك في هذا الإطار؟ داعش عدونا ونحن بحاجة إلى قتال هذا العدو».

لكن ساعات قليلة كانت كافية ليعود وزير الخارجية التركي ويتراجع عن تصريحه أو «زلّة اللسان». ونقلت وكالة «رويترز» عنه قوله: «لم أدل بهذا التعليق. قلت إن بإمكاننا التعاون مع أي شخص في قتال داعش». وأضاف «قلنا إننا قد نتعاون مع روسيا في الفترة المقبلة في قتال داعش، ولم أذكر أي تعليق يشير إلى قدوم الطائرات الروسية إلى قاعدة إنجيرليك الجوية».

التصريح والتراجع السريعان عنه قد يلخص سياسة «المد والجزر» التي تتبعها أنقرة في تعاملها مع موسكو ومحاولة استغلال هذا الاتفاق بعد اعتذار تركيا رسمياً من روسيا في السابع والعشرين من شهر حزيران الماضي على إسقاط المقاتلة الروسية في ريف اللاذقية قبل نحو سبعة أشهر.

وفي وقت عادت فيه العلاقات التجارية والاقتصادية بين البلدين إثر الاعتذار التركي، بدأ الحديث عن «انقلاب تركي» مرتقب في موقف أنقرة حول سوريا، من دون الغوص في تعقيدات المصالح التركية في سوريا من جهة، وسياساتها الخارجية من جهة أخرى، الأمر الذي يجعل فكرة «الانقلاب التركي» المحتملة، مسألة اكثر تعقيدا مما تبدو عليه، او لعلها خارج حسابات أنقرة في الوقت الحالي على أقل تقدير بالنظر إلى التطورات الميدانية في سوريا.

ففي اليوم ذاته الذي تقدمت فيه تركيا باعتذار إلى روسيا، وشهدت العلاقات بين البلدين انفراجات كبيرة، أعلن «جيش الفتح» الذي تتلقى الفصائل المكونة له دعماً كبيراً من تركيا إطلاق «معركة اليرموك» في ريف اللاذقية الشمالي، لتتمكن الفصائل من السيطرة على بلدة كنسبا، والتي كانت قوات الجيش السوري استعادتها بعد نحو خمس سنوات على خروجها عن السيطرة بعد التدخل الروسي، وضمن معركة شاركت فيها المقاتلات الروسية بكثافة.

كذلك يستمر تدفق الأسلحة التركية نحو الداخل السوري بشكل مطرد وعلني بعد الاتفاق التركي الروسي، حيث أظهر تسجيل وزعته فصائل مسلحة سورية عمليات نقل أسلحة إلى الداخل السوري عن طريق شركة «جوخدار تريلر» التركية المختصة بالخدمات اللوجستية بينها مدرعات وآليات ثقيلة ودبابات منها T-62 الروسية.

ويرى الكاتب والأكاديمي السوري محمد صالح الفتيح أن «لكل من البلدين أسبابه للمضي بالمصالحة فبينما تحتاجها روسيا لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى ترى تركيا أن المصالحة ضرورية مع روسيا لأسباب متعددة سياسية وأمنية واقتصادية»، مضيفا «تأتي الأسباب السياسية أولاً فقد بات واضحاً أن تركيا غير مرتاحة للدعم الأميركي للأكراد في سوريا لاسيما أن الأكراد عادوا إلى تنفيذ عمليات تقدم غرب نهر الفرات، وهو ما كانت الولايات المتحدة قد أوقفته منذ ستة أشهر إرضاءً لأنقرة. وبالتقارب مع روسيا اليوم تحاول تركيا دفع الروس بعيداً عن الأكراد، سواء في سوريا أو في تركيا، ومن ناحية أخرى تكون قد أرسلت رسائل احتجاج لواشنطن».

وتتمتع روسيا وتركيا بعلاقة اقتصادية متينة، حيث تصنَّف موسكو الشريك الاقتصادي الأول بالنسبة لأنقرة بحجم تبادل تجاري وصل قبل حادثة إسقاط المقاتلة الروسية إلى نحو 40 مليار دولار، بحصة تبلغ 4.6 في المئة من إجمالي التجارة الخارجية الروسية، حيث يغطي الغاز الروسي نحو 60 في المئة من احتياجات تركيا، في حين يعتبر الروس أحد أبرز الموارد السياحية بالنسبة لتركيا حيث زار تركيا في العام 2014 حوالي 3.3 ملايين سائح روسي وفق صحيفة «كوميرسانت» الروسية. وتأمل تركيا بأن يصل حجم التبادل التجاري إلى نحو 100 مليار دولار سنويا.

وتدرك موسكو أن القضية السورية معقّدة بالنسبة لتركيا، خصوصا من ناحية علاقتها الوطيدة بالفصائل المسلحة وعلى رأسها كل من «جبهة النصرة» و «أحرار الشام»، وهو ما بدا واضحا من رد مندوب روسيا الدائم لدى الاتحاد الأوروبي فلاديمير تشيجوف بأنه «على تركيا العمل على إغلاق حدودها مع سوريا ومنع تدفق الإرهابيين والأسلحة عبرها بدلاً من الانشغال بقاعدة إنجيرليك»، ما يمكن أن يعطي قراءة اكثر موضوعية للتقارب التركي ـ الروسي، ذي الطابع الاقتصادي بالدرجة الأولى.

جريدة "السفير"