إيران وتركيا: حدود الأدوار في المنطقة العربية

05.10.2016

مع الطموح المعلن لكل من إيران وتركيا في تأدية أدوار إقليمية في منطقتنا العربية، والفجوات الكبيرة التي تركها خلفه النظام الإقليمي العربي الغارب، يبدو مفيداً التمعن في حدود وقيود الأدوار الموضوعية المفروضة على كل من الدولتين الإقليميتين الكبريَين (أربعة قيود)؛ فليست الأمور بالسهولة التي قد تبدو عليها من الوهلة الأولى.

يتميز النظام السياسي للبلدين بمذهبية طاغية، قد تقوّي أدوارهما الإقليمية لدى شرائح بعينها، لكنها في الوقت نفسه تضعّفها عند شرائح أخرى، وإذ يساعد عامل الدين الإسلامي المشترك، باعتباره أحد مكونات الهوية العربية والإيرانية والتركية، على النظر إلى إيران وتركيا باعتبارهما تتقاسمان مشتركات ثقافية مع العرب، لا يجعل أياً منهما عضواً في الهوية العربية الغالبة مع ذلك. ربما يفسر ذلك تركيز إيران وتركيا ـ مع تفاوت مشروعيهما الإقليميين ـ على الروابط الدينية مع العرب، من أجل تأمين القبول الإقليمي اللازم لأدوارهما وتجسير هذه الفجوة الهوياتية. وهنا تجدر ملاحظة أن إيران الشاهنشاه وتركيا العلمانية، برغم قوتهما العسكرية وعلاقاتهما مع الغرب، لم تفلحا في إثبات الحضور وبعض القبول في المنطقة في الفترات السابقة، مثلما أفلحت في ذلك إيران الإسلامية وتركيا تحت حكم «حزب العدالة والتنمية» ذي التوجه الإسلامي.

ومن وجه ثان، أفلحت كل من إيران وتركيا في تقديم صورتيهما في المنطقة استناداً إلى شعاراتهما المفضلة المدروسة بعناية، التي تم الاشتغال عليها ببراعة، وذلك بقطع النظر عن نسبة الصحة في كل صورة. وهنا تنبغي ملاحظة أن شرط الصورة ينطبق على كل من إيران وتركيا، أساساً بسبب غياب صورة لنموذج عربي راهن في الإقليم، لا فقط البراعة في الاشتغال على الصورة من طرف طهران وأنقرة. ومن وجه ثالث، تملك كل من إيران وتركيا راهناً أفضلية التأثير الأيديولوجي على الدول العربية، تلك التي فقدت منذ عقود إمكانية التأثير على البناء الأيديولوجي للمنطقة. استثمرت إيران سياسياً ومالياً لثلاثة عقود من الزمن في بناء شبكة تحالفات من القوى الشيعية في دول المشرق العربي، استغلالاً لتآكل الانتماء الدولتي وعجز الأنظمة العربية عموماً وأنظمة المشرق العربي خصوصاً عن التعامل مع كل مواطنيها على قدم المساواة. واستثمرت إيران أيضاً في عجز الدول العربية عن اجتراح حل سياسي للقضية الفلسطينية المؤثرة بشدة في وجدان العرب، فحصلت بسهولة على ورقة الصراع مع إسرائيل، وأضافت بالتالي الكثير من الثقل لتأثيرها على البناء الأيديولوجي للمنطقة. هنا تُلاحظ دقة الحسابات الإيرانية لجهة عدم توسيع جبهات الصراع بغرض إبقاء التوتر في حدود مضبوطة بين حلفاء إيران وإسرائيل، ما يؤسس عاطفياً ووجدانياً لتأثير إيران الأيديولوجي المطلوب، والحيلولة في الوقت ذاته دون أن يتطور الأمر إلى حرب مباشرة بين إيران وإسرائيل.

من ناحيتها، وبسبب ابتعاد تركيا لعقود طويلة عن المنطقة وانشغالها بالغرب بمعناه الأوروبي و«الأطلسي»، لم تحظ تركيا بمثل هذه الإمكانية. ومع ذلك بدا التأثير التركي الأيديولوجي واضحاً مع صعود جماعة «الإخوان المسلمين» إلى السلطة في مصر وليبيا وتونس في المرحلة الأولى من «الربيع العربي»، وأفلحت تركيا في التوسط بين الجماعة والغرب في ملفات شتى، فحظيت وقتذاك بما يشبه الاعتراف الدولي بتأثيرها على جماعة «الإخوان». ومع إطاحة حكم الجماعة في دول «الربيع العربي» فقد تراجع التأثير التركي الأيديولوجي كثيراً، وإن بقي قائماً في حدود لا تقارن بنظيره الإيراني. وفي النهاية، من الإنصاف القول إن تأثير تركيا على جماعة «الإخوان المسلمون» لم يكن بالكثافة والعمق مقارنة بتأثير إيران على تحالفاتها الإقليمية، فتركيا لم تُنشئ جماعة «الإخوان» من العدم، بل تأثر قادة «حزب العدالة والتنمية» الحاكم فيها بفكر الجماعة قبل أن يصلوا إلى الحكم.

يتمثل القيد الرابع في القدرات الشاملة لكل من تركيا وإيران، حيث تتوازن الكتلة السكانية لكل منهما في مواجهة إحداهما الأخرى (أربعة وسبعون مليون نسمة لإيران وأكثر من اثنين وسبعين مليون نسمة لتركيا)، وتشكلان تفوقاً ديموغرافياً نظرياً على سكان المشرق العربي (إذا نظرنا إليه بمعزل عن امتداداته المصرية). ومع تميز الثقافتين الفارسية والتركية، يبقى تأثيرهما محدوداً نسبياً في ثقافة العالم العربي باعتبارها نتاج تفاعل حضارات مختلفة، ولكن مع تبلور هوية عربية غالبة. بالمقابل يملك البلدان قدرات عسكرية نسبية غير مُنكرة، لا يمكن المقارنة الفعلية بينهما إلا خبير عسكري، ولكن يمكن القول إن القوة العسكرية لأي منهما تتفوق على القوة العسكرية الحالية لدول المشرق العربي مجتمعة (العراق وسوريا ولبنان والأردن) إذا نظرنا إليها بمعزل عن العمق العربي. ومن المعلوم أنّ القوة العسكرية مفهوم زمني ونسبي، بحيث تقاس خلال فترات زمنية بعينها، وهي قابلة للتبدل في فترة زمنية ليست بالطويلة.

في الجانب الاقتصادي يبدو التفوق التركي واضحاً على نظيره الإيراني، فإذا اعتمدنا المؤشر الأكثر تداولاً في المحافل البحثية لقياس القوة الاقتصادية، أي الناتج المحلي الإجمالي ـ برغم التحفظات الممكنة على كفايته التفسيرية ـ وجدنا المؤشر التركي يتفوق على نظيره الإيراني بأكثر من الضعف أي نحو 734 مليار دولار لتركيا مقابل نحو 331 مليار دولار لإيران، والأرقام بحسب «مؤشر الشفافية العالمي» لعام 2014. ويعني ذلك أن قدرة تركيا على إسناد طموحها الإقليمي اقتصادياً تتفوق على القدرة الإيرانية في ذلك، برغم أن الوضع الحالي يشهد انفلاشاً إقليمياً إيرانياً في مقابل تأثير تركي محدود برقعة صغيرة في شمال العراق وشمال سوريا مقارنة بالتأثير الإيراني الواضح في العراق وسوريا ولبنان. بمعنى آخر، تشكل القدرات الاقتصادية إحدى نقاط الضعف الإيرانية لتأدية دور إقليمي، بحيث يصبح الانفلاش الإقليمي المذكور عبئاً متعاظماً بمرور الوقت على القدرات الاقتصادية الإيرانية المحدودة نسبياً مقارنة بتركيا. وفي كل الأحوال، يعتمد الاقتصاد الإيراني إلى حد كبير على النفط (أكثر من خمسين في المئة من موازنته العامة)، فيما يبلغ المكوّن التكنولوجي للاقتصاد التركي المتقدم نسبياً حدوداً ضئيلة للغاية. ومعنى ذلك أنّ أياً من إيران وتركيا لا تملك تفوقاً اقتصادياً كاسحاً على الدول العربية، بل إن الصورة قد تنقلب كلياً في حال النظر إلى الدول العربية بحسبانها وحدة تحليل اقتصادي متصلة تعرف تكاملاً وتعاوناً اقتصادياً في ما بينها.

نشرت للمرة الأولى في "السفير"