تركيا والتقارب مع سوريا: مناورة تكتيكية أم تغيير في الاستراتيجية؟
منذ أن تبادل وزيرا الخارجية السوري والجزائري الزيارات، في آذار ونيسان هذا العام، والحديث يدور حول فتح قناة تركية - سورية، تقوم فيها الجزائر بدور الوساطة، بطلبٍ من تركيا، الباحثة عن سبيل لاحتواء الخطر الكردي المتنامي. وإن كانت هذه الرواية ضعيفةً للغاية لأسباب كثيرة ليس أقلها الفتور الكبير الذي يشوب العلاقات الجزائرية-التركية أساساً، إلا أن الحديث عن القناة التركية-السورية لم يتوقف بل عاد مؤخراً بقوة، لاسيما بعد المصالحة الروسية التركية، وبعد ظهور انخفاض واضح في النبرة التركية تجاه سوريا وبروز لغة جديدة تتحدث عن الخشية من الإرهاب، والأمل بعودة الاستقرار إلى سوريا ودول الإقليم الأخرى. فأصبح الحديث يدور عن قناة تركية سورية مباشرة. تحاول هذه المقالة دراسة التقارب التركي-السوري بحسب ما يتوفر من معلومات وتحليلات.
ما نعلم أنه موجود فعلاً
القناة التركية ـ السورية، بحسب ما يتوفر من معلومات، تمر عبر عدد من الضباط الأتراك السابقين الذين تم تسريحهم منذ سنوات ومحاكمتهم ضمن ما يعرف بقضية "أرغينيكون"، وهم الضباط المتهمون بمحاولة تدبير انقلاب ضد حزب "العدالة والتنمية" الحاكم والذين ينتسبون اليوم لحزب "الوطن" التركي. تكررت زيارات بعض هؤلاء الضباط، ولعل أبرزهم الجنرال إسماعيل حقي بيكين، الرئيس السابق لدائرة الاستخبارات في الجيش التركي ونائب رئيس حزب "الوطن"، لدمشق خلال العامين الماضيين، وعند عودتهم في كل مرة كانوا يقومون بإبلاغ الخارجية التركية بنتائج لقاءاتهم في دمشق. الخارجية التركية من جانبها لم تظهر اهتماماً بهذه اللقاءات إلا في الأشهر الأخيرة، ولكنها لم تقم بإرسال أي رسائل محددة لدمشق. آخر زيارة قام بها هؤلاء الضباط لدمشق كانت بين 22 و26 أيار الماضي، أي في ذروة الحديث عن حصول تغيير في الموقف التركي إزاء سوريا. ولكن خطاب الرئيس السوري بشار الأسد أمام مجلس الشعب، في 7 حزيران، أي بعد زيارة الضباط الأتراك لدمشق، تضمن ما يمكن وصفه بأقسى التصريحات ضد تركيا منذ بداية الأزمة السورية. جملٌ مثل "نظام أردوغان الفاشي" و"حلب ستكون المقبرة التي تدفن فيها أحلام السفاح أردوغان"، لا تشي بأن دمشق تلقت بالفعل رسائل تركية ودية أو بأنها تعول على التهدئة اللفظية، الملتبسة، التي لجأت إليها أنقرة.
تركيا نفسها لم تقدم إشارات جدية حول تغيير في الموقف تجاه سوريا، ويكفي هنا التذكير ببعض أحداث الأيام الماضية، تحديداً منذ أن قدم أردوغان "اعتذاره" لبوتين، في 27 حزيران الماضي. في ذلك اليوم نفسه قدم ألكسندر زورين، ممثل روسيا في "مجموعة العمل الدولية" الخاصة بمراقبة وقف الأعمال العدائية في سوريا، معلوماتٍ حول تقديم تركيا أسلحة حديثة لـ"جبهة النصرة" من بينها مئة صاروخ مضاد للطائرات. وفي ذلك اليوم نفسه أيضاً هاجمت فصائل مدعومة من الاستخبارات التركية، على رأسها "الحزب الإسلامي التركستاني"، منطقة كنسبا في شمال اللاذقية ضمن ما عرف بمعركة "اليرموك"، التي لاتزال مستمرةً إلى اليوم، وتشارك فيها المدفعية التركية أحياناً في دك مواقع للقوات السورية المدافعة. وخلال شهر تموز رفعت تركيا من وتيرة نقل السلاح عبر الحدود إلى حد أنها استعانت بإحدى الشركات التركية الخاصة، شركة "غوخدار تريلر"، للقيام بمهمة نقل الدبابات والعربات المدرعة إلى شمال محافظة حلب.
كما لم يتوقف الدعم التركي عن الفصائل التي يقاتلها الجيش السوري ضمن معركة السيطرة على طريق "الكاستيلو"، بل إن الدعم وصل إلى حد إرسال تركيا لطائرة "أواكس" من طراز E-7 للتحليق بشكل مكثف داخل الأجواء التركية، أمام منطقة إعزاز، لتأمين عمليات رصد الطيران الحربي داخل الأراضي السورية، فيما كان هذا الطيران، السوري والروسي، يستهدف الأرتال القادمة من تركيا لمساندة المسلحين على جبهة "الكاستيلو". وفي 9 تموز الجاري نقلت صحيفة "خبر ترك" أن الحكومة التركية ستبدأ تدريجياً منح الجنسية التركية للاجئين السوريين على أراضيها وأن الدفعة الأولى ستكون بحدود ثلاثمئة ألف سوري. هناك الكثير من التفاصيل الأخرى، ولاسيما العسكرية منها، التي لا يتسع المجال لذكرها هنا.
بالمختصر، لا مؤشر حقيقيا على وجود أي تغيير في الموقف التركي، بل يمكن القول إن الانخراط التركي قد ارتفع نسبياً خلال الأسابيع الماضية. كيف يمكن إذاً تفسير التغيير في النبرة التركية تجاه سوريا؟
التفسير المحتمل
لابد من الإشارة بدايةً إلى أن الحكومة التركية، بحسب ما يتوفر من معلومات، كانت تستشعر احتمالات متصاعدة لحصول تحركات معادية لها، بما في ذلك حصول انقلاب عسكري، ولهذا لجأت خلال الأشهر الماضية إلى تغيير نبرتها لتبدو أكثر تصالحيةً، بما يشعر الناخب التركي بأنه لن يكون هناك المزيد من القلاقل. ولنتذكر هنا أن أحد أهم العوامل التي ساعدت حزب "العدالة والتنمية" على حصد ثلاثة ملايين صوت إضافي في جولة الانتخابات البرلمانية الثانية، العام الماضي، هو خشية الأتراك من فقدان الاستقرار في البلاد.
وليس من المصادفات العابرة أن يأتي التغيير في النبرة التركية تجاه سوريا في الوقت نفسه الذي تتزايد فيه شدة المواجهات بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني PKK، وتبدو أنقرة أقرب من أي وقت للقبول بالأمر الواقع وبدء التفاوض مع الأكراد الأتراك. لا بد نتذكر هنا الأنباء التي شاعت في النصف الأول من حزيران الماضي، حول قيام السلطات التركية بالتحضير لنقل عبد الله أوجلان من سجنه المشدد في جزيرة "أمرالي" إلى مسكن آخر حيث سيخضع للإقامة الجبرية، ولكن سيُسمح له بالتواصل مع قيادات حزبه لتسهيل العملية التفاوضية مع الحكومة التركية. ومع غياب أي مؤشر حقيقي على وجود تغيير في "أفعال" تركيا، يبدو من المنطقي أكثر أن تُفسر "الأقوال" التركية على أنها مناورة تسعى لتعزيز الموقف التفاوضي التركي مع الأكراد، عبر الإيحاء بأن تركيا تستطيع تجنب الرضوخ للمطالب الكردية عن طريق عقد اتفاق مباشر مع سوريا يذهب الأكراد ضحيةً له.
في سبعينيات القرن الماضي، هدد صدام حسين الأكراد المنتفضين بأنهم إن لم يقبلوا باتفاقية الحكم الذاتي، 11 أذار 1970، فإنه سوف يقوم بعقد اتفاق مباشر مع شاه إيران يكون الأكراد الخاسر الأكبر فيه. لم يصدق الأكراد التهديد العراقي الذي تحول إلى أمرٍ واقع عندما وقع صدام حسين اتفاقية الجزائر في آذار 1975. تنازل صدام للشاه عن شط العرب فيما ترك الشاه الأكراد لمصيرهم. يتخيل البعض اتفاقيةً مشابهةً اليوم، ولكن هل يمكن مقارنة موقع سوريا اليوم بموقع إيران الشاه وموقع تركيا اليوم بموقع العراق في السبعينيات؟
هل يمكن أن تحصل صفقة أساساً؟
في الروايات كافة التي تحدثت عن القناة السورية التركية، كان التغيير في الموقف التركي يفسر بالخشية من الخطر الكردي والسعي للتعاون مع سوريا لاحتواء هذا الخطر. ملخص ما تفترضه هذه الرواية هو أن تركيا ستغير موقفها من سوريا، وتغلق حدودها متخليةً عن مسلحيها، مقابل أن تتعاون سوريا مع تركيا لاحتواء الأكراد. ولكن هل هذه المعادلة ممكنة أصلاً؟ نحن لسنا في العام 1998، يوم كانت أنقرة تصر على أن "حزب العمال الكردستاني" ينفذ عملياته في الداخل التركي بإيعازٍ من دمشق. لا تأثير لدمشق اليوم إطلاقاً على هذا الحزب. وحتى جناحه السوري، "حزب الاتحاد الديموقراطي" PYD، بات أكثر جرأةً في تحدي دمشق. فبعدما أعلن عن المشروع الفيدرالي في شمال سوريا، في 17 آذار الماضي، عاد وأعلن في مطلع تموز عن "دستور النظام الفيدرالي" لشمال البلاد، كما تكررت اعتداءاته على المقرات الحكومية والنقاط الأمنية في مدينتي القامشلي والحسكة.
لكي يصبح من الممكن حصول صفقة من نوع ما بين دمشق وأنقرة، لا بد لدمشق أن تعود أولاً لفرض نفوذها ووجودها العسكري في شمال شرقي البلاد، تحديداً في شمال منطقة الجزيرة بين نهري دجلة والفرات. حصول مثل هذا التحرك الآن يصبح ذا فائدة مزدوجة: فهو من ناحية يقطع الطريق على تطور النزعة الانفصالية في شمال شرق البلاد، ومن ناحية أخرى يمكن أن يساهم بشكل مباشر في إنقاذ كل البلاد عبر إقناع الأتراك بإمكانية حصول صفقة تسمح بالتحرك نحو نهاية الأزمة. المطلوب هو التحرك الفاعل؛ مجرد الانتظار لن يقربنا من الحل، هذا ما علمتنا إياه السنوات الخمس الماضية.
نشرت لأول مرة في "السفير"