تهديدات نزارباييف.. ما مدى استقرار كازاخستان

29.08.2016

على خلفية حالة الإضطراب التي تعيشها البلدان المجاورة لكازخستان، يمكن القول ان البلاد لا تعاني من وجود صراعات إقليمية أو عرقية أو عشائرية خطيرة. وخمسة وعشرين عاما من الحياة السلمية بعد الاستقلال، دليل آخر على هذا. ومع واحدة من التهديدات لرفاه البلاد، وهي انخفاض أسعار النفط، يبدو أن أستانا ما زالت قادرة على التأقلم. إلا أن تهديدا آخر قد يغير كل الموازين، وهو التغير الوشيك للنخب في البلاد.

سلسلة الهجمات الإرهابية التي شهدتها كازخستان هذا الصيف، أجبرت المراقبين في جميع أنحاء العالم على التفكير في مسألة من ولماذا نظم هذه الهجمات المسلحة، التي زعزعت سلم الحياة في البلاد، التي لطالما اعتبرت الأكثر استقرارا في آسيا الوسطى. ومعظم الخبراء، بما في ذلك الغربيين، يميلون لتصديق التصريحات الرسمية للسلطات، التي وجهت أصابع الاتهام للمنظمات الاسلامية المرتبطة بـ"داعش".

من حيث المبدأ، من الممكن التشكيك بتصريحات استانا الرسمية، بنفس قدر تصديقها، فالتكوين التقليدي للمجتمع الكازاخستاني، وانغلاق نخبه، بالإضافة إلى وجود الحد الأدنى من وسائل الاعلام التي يمكنها تقديم تقييم موضوعي للوضع في البلاد، يوفر أرضا خصبة لجميع أنواع التخمينات والتكهنات. والموقع الاستراتيجي للبلد بين المركزين الجيوسياسيين - موسكو وبكين – يزيد فقط من عدد السيناريوهات والفرضيات التي يحاول المحللون ربطها بالأحداث الجارية في كازاخستان.

بالحديث عن كازاخستان ما بعد الاستقلال، يمكن تقسيم التهديدات الرئيسية لأمن واستقرار البلاد إلى ثلاثة أنواع: تلك المرتبطة بالتطرف الإسلامي، وأخرى متصلة بالنزعة الانفصالية (الإقليمية أو العرقية) وتلك المتعلقة بالصراعات القبلية. واذا حكمنا من خلال المظاهر، يبدو أن الرئيس نازاربايف، تمكن خلال حكمه الذي يستمر منذ ربع قرن، من التعامل بنجاح مع النزعات الانفصالية ومع الصراعات العشائرية. ولذلك، فإن أي اضطراب في المجتمع، وكقاعدة عامة، يتم ربطه تلقائيا بمكائد المجرمين والجماعات الاسلامية أو بأنشطة أجهزة المخابرات الأجنبية. ولكن هل هذا ما يجري حقا؟

من أورالسك إلى جاناوزن
تكررت محاولات إعادة رسم حدود كازاخستان منذ الحقبة السوفيتية (مبادرة خروشوف لخلق "الأرض البكر"، واقتراح منح منطقة مانغيشلاك لجمهوريتي تركمانيا وأذربيجان الاشتراكيتين السوفيتيتين، وإنشاء منطقة حكم ذاتي للأمان، وفكرة منح السيطرة على جزء من جنوب كازاخستان لجمهورية أوزبكستان السوفيتية)، وفي السنوات الأولى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ظلت مسألة السلامة الإقليمية للجمهورية محل اهتمام وقلق. إلا أن الأمر لم يتطور إلى ما جرى من اشتباكات خطيرة في العام 1990 في منطقة أوش القيرغيزية.

مرحلة المشاعر الانفصالية في كازاخستان، ولت منذ فترة طويلة، بعد أن بلغت ذروتها في النصف الأول من التسعينات، حين طالب الروس المحليين بإنشاء منطقة حكم ذاتي في إقليمي أورالسك ووأوست كامينوغورسك، ومنح اللغة الروسية الصفة الرسمية. كما ظهرت مشاكل في منطقة ألما-آتا، حيث برزت فعاليات نشطاء اليوغور.

تمكنت السلطات الكازاخستانية من التعامل مع هذه التهديدات دون خسائر. وانخفض عدد السكان الروس في كازاخستان من 35٪ في 1990، إلى 20٪. وتم إعتقال بعض النشطاء الموالين لروسيا، مثل أتامان القوزاق السيميريتشسكيين، نيكولاي غونكين، والقيادي في حركة "الأرض الروسية" فيكتور كازيميرتشوك، وتم تفريق أنصارهم. في الوقت نفسه، رسمت قيادة الجمهورية حدود هذه الأقاليم لتقليل نسبة المواطنين الروس في أماكن إقامتهم. في نفس الوقت، في المناطق المهجورة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي من قبل الروس والألمان والأوكرانيين، انتشر الكازاخ العائدون إلى وطنهم من بلدان أخرى.

أما بالنسبة لليوغور، فإن كل محاولاتهم للمشاركة في الحياة السياسية للبلاد، ارتبطت دائما بالإسلام والنزعة الانفصالية في شرق الصين. ونتيجة لذلك، تم اعلان الحزب الإسلامي لتركستان، والحركة الإسلامية لتركستان الشرقية، منظمات إرهابية في كازاخستان، وتم حظرها، ولم تر فكرة انشاء حزب وطني  لليوغور النور.

بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، ودعمها للانفصاليين في منطقة حوض الدون شرقي أوكرانيا، عادت لتبرز إلى السطح قضية تقرير مصير الجالية الروسية في كازاخستان. غير أن هذا الأمر في جزئه الأكبر، جاء نتيجة لجهود وسائل الإعلام التي روجت لظهور جمهورية أوستكامينوغورسك الشعبية المفترضة، في حين أن ذروة "تصاعد النزعة الانفصالية الروسية" في كازاخستان، اقتصر على سجن مدون محلي بتهمة التحريض على الانفصال، ونقل رجل أعمال إلى المشفى، بعد أن أعلن نفسه إمبرياليا روسيا، وعرض مكافأة مقابل رأس الملياردير الأوكراني إيغور كولومويسكي.

وأعادت الأحداث في جاناوزن في العام 2011، التي شهدت تفريق متظاهرين عاملين في مجال النفط (كان سبب الاحتجاج، اعتقال القادة النقابيين وسوء الإدارة، ولقي خلالها أكثر خمسة عشر شخصا حتفهم)، إلى الواجهة، الحديث عن النزعة الانفصالية الإقليمية. ذلك أن مطالب المحتجين، ضمت بالإضافة إلى استقالة المسؤولين المحليين، أيضا فصل منطقة مانغيشلاك عن استانا.

تنتمي المنطقة الغربية من كازاخستان (أكتوبي، غرب كازاخستان، مانجيستاو وأتيراو) تاريخيا إلى المناطق القبلية، واليوم تتمتع هذه المنطقة بوضع خاص. إذ يعتمد اقتصاد كازاخستان بشكل كبير على موارد النفط والغاز في هذه المنطقة، ولكن مستوى معيشة السكان في الإقليم، يتخلف بشكل كبير عن مستوى سكان ألما تا وأستانا، والتي خلافا للمناطق الغربية، تتلقى دعما ماليا ضخما من الميزانية. في الوقت نفسه، تم إقصاء ممثلو القبائل المحلية، في المقام الأول قبيلة أداي عن السلطة، ليس فقط في البلاد، والتي يهيمن عليها ممثلو آقاليم (ألما آتى، جامبولسكايا، وجنوب كازاخستان وكزيل أوردينسكايا)، برئاسة نزارباييف، ولكن أيضا عن إدارة المناطق الخاصة بهم، حيث يتم تعيين المسؤولين من المواطنين من مناطق أخرى. كما أن السلفيين، الذين تفضل السلطات اتهامهم بمظاهر التعصب الديني، هم أكثر شيوعا بالتحديد في غرب البلاد.

رغم كل ما ذكر، من غير المجدي المبالغة في إمكانية ظهور تهديدات وبؤر توتر عل شواطئ بحر قزوين. فظهور نشاط انفصالي خطير في المنطقة، يعوقه بالأساس العامل الجغرافي، فبدون أستانا، ببساطة لن تكون هذه الأقاليم قادرة على الحصول على المواد الغذائية ومياه الشرب.

إلباسي وعشائره
غلبة ممثلي قبيلة جوز الأكبر في الحكومة، يميز الوضع في كازاخستان، على سبيل المثال، عن أوزبكستان المجاورة. حيث تشكلت النخبة حول الرئيس إسلام كريموف حتى وقت قريب على أساس إقليمي: عشيرة سمرقند، عشيرة طشقند وعشيرة فرغانة. في كازاخستان، جماعات التأثير غير مربوطة بالعامل الجغرافي، وتتشكل حول أشخاص معينين، يتم تحديدهم استنادا إلى درجة الثقة من جانب زعيم قبيلة إلباسي ووزنهم في القطاع المالي والصناعي.

وتشمل هذه الشخصيات رئيس الوزراء كريم ماسيموف وهو رجل أعمال، وصهر الرئيس تيمور كوليبايف ورجل الأعمال المحلي الأغنى بولات اوتيموراتوف، والثلاثي الغني - أصحاب شركة Eurasian Natural Resources Corporation (أكبر شركة بكازاخستان لاستخراج خام الحديد): الكسندر ماشكيفيتش، باتوخ شودييف، وعلي جان إبراهيموف. مثل هذه الشخصيات في البلاد حوالي 15 شخصية.

هذه المجموعات خلال كفاحها من أجل مصالحها، تتحول وتتغير باستمرار، تندمج في تحالفات وتتفتت إلى متنافسين وهلم جرا. ولا يتنازع أي منهم على سلطة للرئيس العليا، فهم يركزون بشكل رئيسي على المسائل التجارية. هذا يسمح لقيادة البلاد بتجنب صراعات خطيرة على السلطة، يمكن أن تتحول إلى مواجهة سياسية في المجتمع.

في بعض الأحيان فقط يتم استخدام تدابير جذرية ضد خصوم السلطة، كما كان الحال مع الوزير السابق للطاقة، المصرفي مختار أبليازوف، والذي سجن في العام 2002 بتهمة إساءة استخدام السلطة. في العام التالي، تم إطلاق سراحه تحت ضغط من الغرب ومنظمات حقوق الإنسان، ثم غادر كازاخستان. وفي كثير من الأحيان، إذا كان الحديث يدور عن رجل أعمال، يتم انتزاع أملاكه وشركاته، كما حدث مع نورجان صبحان بردين، الذي نحي العام الماضي عن إدارة شركة "كازكوميرتس بنك"، واضطر لبيع أسهمه. وفي حال نشوء مشاكل مع مسؤول، يتم إرساله فقط بعيدا عن الأنظار، كما حدث مع الرئيس السابق لإدارة الرئاسة أصلان موسين، الذي أرسل سفيرا إلى كرواتيا. والذي وفقا لخصومه، كان يقف وراء الاحتجاجات في جاناوزن.

جند الخلافة
وفقا لتقارير منتظمة من لجنة الأمن القومي في كازاخستان، قبل ظهور منظمة "داعش"، كانت الجهات المتطرفة الدينية الرئيسية في البلاد، حركة أوزبكستان الإسلامية، واتحاد الجهاد الإسلامي، والحزب الإسلامي لتركستان، والحركة الإسلامية لتركستان الشرقية و"حزب التحرير" و"جند الخلافة". ومن هذه المنظمات، الأخيرة فقط، وفقا للبيانات الرسمية، كانت مسؤولة عن جرائم محددة على أراضي البلاد – خاصة، سلسلة من جرائم القتل والهجمات الإرهابية في مناطق مختلفة من كازاخستان (أتيراو، تاراز، منطقة أكتوبي) في 2011-2012.

وبحسب السلطات الكازاخية، تم إنشاء "جند الخلافة" بمشاركة أعضاء من منظمة غير معروفة تتبع الجناح السلفي، وهي حركة الجهاد الإسلامي الكازاخستاني، والتي ظهرت في العام 2008 في غرب البلاد، في مدينة أتيراو. النشاط المتطرف في السنوات العشرين الأولى بعد الاستقلال، لم يطال كازاخستان، وتزامن ظهوره في البلاد مع اعتماد قانون الدين في اكتوبر/تشرين الاول عام 2011. القانون، على وجه الخصوص، يفرض حظرا على أنشطة مختلف الطوائف وعلى وجود غرف الصلاة في مؤسسات الدولة والوحدات العسكرية، وهلم جرا. من جهة، هذا الأمر، بطبيعة الحال، يشير إلى الخلفية الدينية لأعمال العنف التي اجتاحت البلاد. ولكن من ناحية أخرى - على حساب الإسلاميين، تم تسجيل جرائم خطيرة، مثل قتل اثني عشر شخصا في حديقة إيل آلاتاو الوطنية، على الرغم من أن أنشطة العصابات المشاركة في الأمر، كانت تقتصر على السرقة والابتزاز والسطو، أي أنها ذات طبيعة جنائية بحتة.

معدل الجريمة في كازاخستان يتزايد في السنوات الأخيرة. الآن بعدد جرائم القتل مع سبق الإصارا، تحتل كازاخستان أحد أولى الترتيبات بين جمهوريات الفضاء بعد السوفيتي. ولذلك لا يستبعد أن إراقة الدماء في ألما آتا وأكتوبي في صيف هذا العام، تمت من قبل العصابات، البعيدة كل البعد عن فكرة إنشاء الخلافة في كازاخستان. ما جرى يحمل طابعا اجتماعيا أكثر منه دينيا. فالحديث يدور بالفعل عن عصابة مشابهة لعصابة "بريمورسكي" في روسيا، والتي بجرائمها، أعربت عن احتجاجها عل الفوضى في أوساط الشرطة والفساد المستشري في البلاد. ووفقا لخبير العلوم السياسية الكازاخستاني أيدوس ساريم، انفجار العنف في أكتيوبينسك قد يكون ناجما عن تصرفات الشرطة، التي استفزت "الشباب المحليين" ودفعتهم لتوجيه "ضربة مضادة". هذا السيناريو ليس أقل احتمالا من أن الهجمات وقعت عل يد الإسلاميين أو أنها مظهر من مظاهر صراع النخب السياسية في كازاخستان.

لا توجد حجج مقنعة لصالح تورط روسيا في الهجمات الإرهابية الأخيرة، رغم أن الأحداث في أكتيوبينسك تزامنت مع محاكمة رجل الأعمال توختار توليشوف، الذي يعتبر وكيلا لنفوذ الكرملين في كازاخستان، والمتهم بتنظيم محاولة انقلاب. غير أن "ملك البيرة" منذ فترة طويلة، يعاني من الديون المتراكمة، ويزعح السلطات بتجاوزاته، وكانت شركاته محل مطمع لمنافسيه. وبطبيعة الحال، لا يمكننا استبعاد أن أستانا باعتقالها توليشوف في يناير/كانون الثاني، بعثت إشارة تحذير إلى الكرملين. ولكن فكرة أن الكرملين تجاهل هذا التحذير، وأرسل بعد ستة أشهر انفصاليين موالين لروسيا لسرقة متجر أسلحة في أكتيوبينسك، خرافة من الصعب تصديقها.

الجيل الجديد
إذا قارنا كازاخستان بالدول الأخرى - قيرغيزستان، طاجيكستان، أوزبكستان، فإن إمكانات نشوب صراع في هذه الجمهورية ليست كبيرة جدا. وعلى خلفية جوارها مع دول مضطربة، يمكن القول بأن كازاخستان لم تشهد صراعات حادة لا سيما إقليمية وإثنية أو عشائرية. وخمسة وعشرين عاما من الحياة السلمية بعد الاستقلال، خير دليل على ذلك. على أي حال، كازاخستان لم تشهد أي ثورات أو حروب أهلية، ولا انتفاضات شعبية بهذا الحجم كما كان الأمر في العام 2005 في مدينة أنديجان الأوزبكية.

هذه التناقضات التي لا تزال موجودة في المجتمع الكازاخستاني - العرقية، والدينية والاجتماعية – يتم ضبطها بشكل جيد بسبب التوازن العشائري في السلطة، ومستوى المعيشة المرتفع نسبيا في البلاد (نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لكازاخستان، يوشك أن يتساوى مع نظيره في روسيا). ومع واحدة من التهديدات لرفاه البلاد، وهي انخفاض أسعار النفط، يبدو أن أستانا ما زالت قادرة على التأقلم. إلا أن تهديدا آخرا قد يغير كل الموازين، وهو التغير الوشيك للنخب في البلاد.

عاجلا أم آجلا، سيترك نور سلطان نزارباييف الرئاسة، وخليفته، أيا كان (من خلفائه المحتملين، ابنته الكبرى داريغا، ورئيس الوزراء ماسيموف، وتيمور كوليبايف، وابن شقيق الرئيس سامات أبيش) سيضطر لمواجهة ليس فقط تحديات إعادة توزيع مناطق النفوذ في أعلى هرم السلطة، ولكن أيضا طموحات الجيل الجديد من المسؤولين.

اليوم، كازاخستان لا تزال محكومة بشكل رئيسي من قبل مسؤولين قريبين من سن التقاعد، ترعرعوا في ظل النظام السوفياتي. ومع ذلك، يزداد تدريجيا نفوذ جماعة ما يسمىى بـ"البولاشاكيين"، وهم المشاركين في برنامج "بولاشاك" الرئاسي، الذي أطلقه نزارباييف في وقت مبكر من التسعينات،. البولاشاكيين هم على وجه الخصوص، وزير الاقتصاد الوطني كوانديك بيشيمبايف وحكام أكبر المدن في البلاد: عمدة ألما-آتا باويرجانبايبيك، وعمدة شيمكنت عبيدالله عبدرحيموف.

حتى الآن، جميع هؤلاء المسؤولين ورجال الأعمال ورجال العلاقات العامة والمعلمين الذين تلقوا تعليمهم في الجامعات الأوروبية والأمريكية المرموقة، لم يشكلوا بعد نخبة جديدة كاملة، ولكن التحديات الجديدة التي تواجه كازاخستان، يمكنها أن تسرع هذه العملية.