إسلامان في روسيا

15.07.2016

تشهد روسيا في السنوات الأخيرة توتراً، صريحاً أو مكتوماً، داخل الساحة الإسلامية الروسية، بين ما يُسمّى الإسلام الرسمي المعتدل والإسلام الراديكالي الذي يُوصف هنا بالوهابي والسلفي المتشدّد. وتجلى هذا التوتر في اغتيالات ومحاولات اغتيال بعض رجال الدين الإسلاميين الرسميين من قبل أنصار الإسلام الراديكالي. ففي صيف العام 2011، جرى اغتيال مقصود صديقوف، رجل الدين المعتدل ومدير «معهد علوم الدين» في جمهورية داغستان الروسية، الواقعة شمال القوقاز. وفي العام 2012، تمّ اغتيال الشيخ سعيد أفندي، أحد أبرز شيوخ الصوفية في داغستان أيضاً. وقد قُتل سعيد أفندي وسبعة من مُريديه على يد فتاة فجّرت نفسها بحزام ناسف. واتضح في ما بعد أن هذه الفتاة من أبناء القومية الروسية، اعتنقت الإسلام قبل سنوات، وتتهمها السلطات الأمنية الروسية بأنها تنتمي إلى ما يُسمى بالحركة الوهابية السلفية المتشددة في داغستان. وتمر داغستان بما يشبه «الحرب الدينية»، التي نتجت عن انقسام عقائدي حاد بشأن تفسير الشريعة الإسلامية وكيفية تطبيقها، وبشأن العلاقة مع الدولة الروسية نفسها. إن هذا الانقسام يمكن اعتباره، بدرجة معينة، من سمات شمال القوقاز خلال العشرين عاماً الأخيرة منذ انهيار الدولة السوفياتية، ومنذ تغلغل ما يُسمّى بـــ «المجاهدين العرب» في تلك المنطقة مع الحرب الشيشانية الأولى في العام 1994. كما أن هذا النزاع «الإسلامي الداخلي» يمكن النظر إليه أيضاً كنزاع بين الأجيال، فالشباب الحاصل على تعليم ديني، بما في ذلك في الخارج في بعض الدول العربية، غالباً ما يُبدي استياءه من الإسلاميين التقليديين «المعتدلين»، معتبرين إياهم موالين للسلطات الرسمية المحلية، الموالية بدورها للكرملين.

إن مناهضي التيار الراديكالي الاسلامي في القوقاز الروسي ليسوا دائماً من أنصار الصوفية. فالمذهب الحنفي المنتشر تقليدياً في مناطق أخرى من القوقاز الروسي وحوض نهر الفولغا وموسكو يقوم بالدور نفسه تقريباً. واللافت أن عمليات تصفية الرموز الدينية الرسمية امتدت من شمال القوقاز إلى جمهورية تتارستان الروسية، الواقعة على نهر الفولغا. ففي العام 2012 أصيب مفتي تتارستان، ايلدوز فايزوف، بجروح خطيرة جراء محاولة اغتيال استهدفته في وضح النهار في قلب العاصمة قازان. وفي اليوم نفسه لقي مصرعه نائب المفتي، ولي الله يعقوبوف، في حادث اغتيال آخر.

يشير العديد من المحللين الروس إلى أن الاغتيالات تلك تعكس الصراع الدائر منذ سنوات بين «الإسلام الرسمي المعتدل» والحركات الإسلامية الراديكالية. ويدلل هؤلاء على ذلك بأن أحد أسباب اغتيال الشيخ سعيد أفندي هو إفشال المصالحة التي بدأت في داغستان بين ممثلي مختلف المذاهب والتيارات الدينية، حيث كان الشيخ أحد أبرز المبادرين لهذه المصالحة. وفي هذا السياق، ترى الباحثة الروسية يانا أميلينا أن أسباب تلك الاغتيالات تكمن في الصراع المستمر منذ سنوات، الذي تخوضه العناصر الراديكالية من الوهابيين والسلفيين وأمثالهم ضد رموز الإسلام المعتدل في روسيا، حيث تهدف العناصر الراديكالية إلى تدمير الدولة العلمانية واستبدالها بالخلافة الإسلامية. وتعتقد الباحثة الروسية أن الأمر يتعلق بتشكيل جبهة إسلامية راديكالية توحّد الجهاديين تنظيمياً في شمال القوقاز وحوض نهر الفولغا في مناطق روسيا الوسطى، وذلك تناغماً مع ما يجرى حالياً في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لكن الصعود الملحوظ لتيارات الإسلام الراديكالي في الساحة الإسلامية الروسية قد يعمل على تغذية مشاعر الغضب لدى الحركات الروسية القومية الراديكالية (جماعات النازيين الجدد)، وقد يُزيد من استفزاز الغالبية المسيحية الأرثوذكسية في روسيا.

لا شك في أن الأزمة السورية طبعت بصماتها أيضاً على ما يجري في القوقاز الروسي، وهو ما تخشاه موسكو. ويؤكد الباحث روسلان قوربانو أن الجيل الأكبر سناً من مسلمي القوقاز ومنطقة الفولغا يؤيد بالكامل نهج الدولة الروسية تجاه الوضع في سوريا. لكن لا يمكن تجاهل حقيقة أنه، مقابل هؤلاء المؤيّدين، تُوجد قوى اجتماعية أخرى مؤثرة، مكونة من النشطاء الشباب المتدينين. وفي هذا المقام، يقول روسلان قوربانوف، المنحدر من داغستان، «إن الوضع في شمال القوقاز خطير، حيث ينضمّ الشباب إلى المسلحين في غابات داغستان». ويعتقد أن الانقسام داخل المجتمع القوقازي، خاصة في داغستان وأنغوشيا وقبردينو - بلقاريا، يتسم بالتعقيد والخطورة. ويبدو أن هؤلاء الشباب يؤيدون المعارضة السورية على أساس «ديني»، وينتقدون بوضوح موقف السلطة الروسية الراهن من الأزمة السورية. يُذكر أن دعم المعارضة السورية من قبل النشطاء المسلمين في جمهوريات شمال القوقاز والفولغا يتخذ أشكالاً مختلفة، منها نشر مقالات والكتابة عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتنظيم تظاهرات احتجاجية، بالإضافة الى الانخراط المباشر في ما يجري في سوريا. ويلفت باحثون روس إلى أن حجم التعاطف مع ما يجري في سوريا حالياً في صفوف شباب التيارات الإسلامية في روسيا يتفوّق على ما كان عليه الأمر في الحالة الأفغانية، حيث إن عدداً كبيراً من عائلات شمال القوقاز يربط نفسه وأصله بالشام.

من متابعاتنا لآراء الباحثين الروس في الفترة السابقة، نلاحظ أنهم يُجمعون تقريباً على أن ما يجري في سوريا يمكن أن تكون له عواقب وخيمة للغاية على منطقتي شمال القوقاز ونهر الفولغا. ويعتقد هؤلاء الباحثون أن استمرار الصراع الدامي في سوريا من قبل المنظمات الإرهابية قد يعمل على استفزاز الشباب المسلم في روسيا، وقد يُزيد من راديكاليتهم ومطالبهم ذات «الطابع الديني»، ومنها إقامة «الإمارة الاسلامية» في القوقاز. ويتفق رأي هؤلاء الباحثين، كما نرى، مع وجهة النظر الرسمية للدولة الروسية المتخوّفة من نتائج الأحداث في سوريا، برغم أن التوتر في شمال القوقاز سابق على الأزمة السورية. لذلك، نرى أن هذا الفريق من الباحثين، في غالبيته، يدعم التدخل العسكري الروسي في سوريا على أساس أن أحد أهدافه منع خطر الإرهاب من الوصول إلى الأراضي الروسية، خاصة في ظل الكشف عن انخراط الآلاف من أبناء القوقاز الروسي في الحرب في صفوف تنظيم «داعش» وغيره من المنظمات الإرهابية في سوريا. وفي مواجهة هذا الفريق، نرى فريقاً آخر من الباحثين في روسيا يعتقد بأولوية معالجة الأسباب الاقتصادية والاجتماعية المسؤولة عن توليد الراديكالية الاسلامية في شمال القوقاز الروسي وغيره من المناطق الروسية الأخرى.

جريدة "السفير"