رسائل همدان
انتقلت محافظة همدان الإيرانية من ذاكرة التاريخ والشعر إلى عين المشهد الإقليمي الراهن، بعد انطلاق الطائرات الروسية من قاعدة همدان العسكرية إلى حلب. همدان الخضراء التي يعرفها غالبية سكان المنطقة عبر انتساب بديع الزمان الهمداني مؤلف المقامات الشهير إليها، أظهرت جانباً غير معهود من شخصيتها هذه المرَّة. ومثلما كتب العلامة ابن سينا رسائله وأبحاثه العلمية في همدان التي دفن فيها، فقد ظهرت مجموعة من الرسائل متعدّدة الاتجاهات في سماء همدان، بالتوازي مع العمليات العسكرية، في اتجاهات شتى إيرانية وروسية داخلية وأميركية أيضاً.
اعتبارات إيرانية
للمرة الأولى منذ انتصار الثورة سمحت السلطات الإيرانية، الأسبوع الماضي، للطائرات النفاثة الروسية باستعمال قاعدة «نوجه» الجوية الواقعة في محافظة همدان، للانطلاق نحو قصف أهدافها في حلب. تملك محافظة همدان، الواقعة غرب إيران، الإمكانية الجغرافية بتقصير الطريق من روسيا إلى حلب، وبالتالي الميزة العسكرية للطائرات المغيرة بتحميل ذخيرة أكثر ووقود أقل للقيام بعملياتها في سوريا. تنسّق كل من إيران وروسيا في سوريا، وكلتاهما تساند قوات النظام. ومن هنا فقد يعتبر البعض أن الخطوة مفهومة وطبيعية لتغيير موازين القوى في حلب، بعدما كسرت المعارضة الحصار المفروض على المدينة. ومع ذلك يمثل الدستور الإيراني عائقاً كبيراً أمام فتح القواعد العسكرية الإيرانية أمام القوات الأجنبية، حيث تقضي المادة 146 منه بمنع تأسيس قواعد عسكرية لأي قوة أجنبية على أراضي إيران، مهما كانت الأسباب. ورداً على استجواب النائب فلاحت بيشه في البرلمان الإيراني حول استخدام القوات الروسية قاعدة همدان العسكرية، فقد انبرى رئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني علاء الدين بروجردي قائلاً «القاعدة ليست روسية ولا توجد بها قوات روسية، وكل ما في الأمر أن الطائرات الروسية تتزوّد فيها بالوقود قبل استكمال طريقها نحو حلب». أما علي شمخاني سكرتير مجلس الأمن القومي الإيراني ووزير الدفاع السابق، فقال: «علاقاتنا مع روسيا استراتيجية لمكافحة الإرهاب في سوريا». وفي الأحوال كلها، لا يتصوّر موافقة السلطات الإيرانية على خطوة كهذه من دون موافقة المرشد، ما يعني أن فتح قاعدة همدان يحظى بأوسع تغطية سياسية ودستورية ممكنة.
ونظراً للسابقة التاريخية، فقد تضاربت التحليلات على الجانب الإيراني، حيث اعتقدت بعض المصادر الإيرانية أن قرار السماح للطائرات الروسية بالتزود بالوقود على أراضيها يستبطن قراراً سيادياً بتحويل اختصاصات مجلس الأمن القومي الإيراني في الموضوع السوري إلى وزارة الخارجية، على غرار ما حدث إبان المفاوضات النووية. ويعني ذلك ضمناً تقوية لجناح ظريف ـ روحاني في الحل السوري خصوصاً، في مواجهة خصومهم بالمؤسسات المتشددة. ولكن نظرة أعمق إلى التكلفة السياسية لسماح إيران باستخدام روسيا قاعدة همدان تقول العكس، وأن النتيجة ستكون فادحة لروحاني وإدارته. ومردّ ذلك أن رهان روحاني الأساسي بعد إبرام الاتفاق النووي مع الغرب يقوم على فتح الأسواق الإيرانية أمام رؤوس الأموال العالمية لاجتذابها، وما يتطلّبه ذلك من تحسين إيران لعلاقاتها مع الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً. والخطوة الأخيرة المتعلّقة بقاعدة همدان والسماح لروسيا باستعمال القواعد الإيرانية سيؤثران سلباً على هدف روحاني المذكور، وتضعف مواقعه دولياً وأميركياً. تتوجه طهران مجدداً إلى روسيا والصين في رسم علاقاتها الدولية، في ما يعد تقوية للجناح المعارض لروحاني وإدارته. كما ترسل إيران ـ المرشد رسالة إلى أميركا بأن لها خيارات أخرى ممكنة في حال انتخاب دونالد ترامب وسعيه المعلن لإلغاء الاتفاق النووي الموقع مع إيران.
حسابات روسية
صحيح أن المقاتلات الروسية من طراز توبوليف ليست في وارد البقاء في إيران، إلا أنها في الأغلب في وارد تكرار الاستعمال للقواعد الإيرانية، طالما استمرت العمليات العسكرية على الأراضي السورية. يمثل ذلك نجاحاً كبيراً لروسيا في تجاوز إرث تاريخي من عدم الثقة بينها وبين إيران، والدليل على ذلك الحروب التي دارت بين روسيا القيصرية وإيران القاجارية في القرن التاسع عشر (كلستان 1813 وتركمان جاي 1828) وفقدت إيران بموجبها أراضي شاسعة لمصلحة روسيا في القوقاز، وأيضاً احتلال روسيا لشمال إيران بالوكالة العام 1945 قبل أن تعود لتنسحب من هناك لاحقاً. هذا الإرث الإيراني الكبير من الشك وعدم الثقة تجاه روسيا يبدو وكأنه انزاح إلى خلفية المشهد، وهي نتيجة إيجابية لروسيا وديبلوماسيتها. ويعني تزوّد الطيران الروسي بالوقود في إيران أن روسيا تنوّع علاقاتها في المنطقة بتطويقها من جهات مختلفة: تحالف مع إيران، وتنسيق عالٍ مع إسرائيل وعلاقات جيدة مع تركيا وعلاقات ليست عدائية مع الدول العربية. ولعل هذه النتيجة الممتازة لروسيا لم تكن متصورة قبل التدخل الروسي في سوريا أي قبل عام واحد فقط من الآن. ومع حديث الصحافة الروسية القريبة من بوتين عن انضمام دول وازنة في الشرق الأوسط إلى رؤية موسكو الاستراتيجية، يبدو أن تصريف النجاح الروسي سيكون في الداخل الروسي أيضاً مع الانتخابات البرلمانية قريباً، مثلما سيكون في الخارج على خلفية المقايضات المحتملة مع الإدارة الأميركية الجديدة.
راهن أوباما على المصاعب الاقتصادية الروسية وعلى اختلاط الحسابات الإقليمية لكي تخرج روسيا خاسرة من المنطقة، لكن الشواهد تقول إن روسيا تكسب المزيد من الحلفاء الإقليميين في الشرق الأوسط. ربما يكون انشغال أميركا بانتخاباتها الرئاسية مسهلاً للوصول إلى تلك النتيجة الصادمة للغرب، إلا أن تخبط أوباما وإدارته في الملف السوري طيلة الأعوام الخمسة الماضية يبدو العامل الرئيسي وراء الاندفاع الروسي الحالي في المنطقة.
ترسل موسكو إلى واشنطن رسالة على جناح طائراتها المقاتلة في همدان أنها باقية في المنطقة، بل وتأتيها حتى من أبواب مختلفة. بالمقابل تبدو تركة أوباما الشرق أوسطية صعبة على من سيخلفه، سواء كلينتون أو ترامب، لأسباب متنوعة ليس أقلها تغير وضعية روسيا في المنطقة.
نشرت للمرة الأولى في "السفير"