قراءة في الانتخابات الفرنسية مواجهة اليمين المتطرف لمنع التقارب مع موسكو
لماذا كان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، مستعداً للتحالف مع اليسار “المتطرف” والمساهمة في منحه الأغلبية والحق في تشكيل الحكومة على السماح للتجمع الوطني بالفوز بأغلبية المقاعد وتشكيل الحكومة؟
ليلة الأحد، الواقع فيه الـ7 من تموز/يوليو 2024، احتفل اليسار الفرنسي، ومعه جزء من اليمين، في شوارع المدن الفرنسية، احتفالاً بالفوز بالانتخابات التشريعية من جهة، وبالنجاح في منع اليمين الفرنسي “المتطرف” من الحصول على الحق في تشكيل الحكومة من جهة أخرى، خلافاً لنتائج الجولة الأولى، والتي شهدت تصدّر اليمين الفرنسي “المتطرف” نتائج الانتخابات التشريعية، في مقابل حصول جبهة اليسار، التي يقودها اليسار “المتطرف”، على المركز الثاني، وحلول حزب الرئيس إيمانويل ماكرون، المصّنف من يمين الوسط، في المرتبة الثالثة.
قراءة في النتائج
بينما كان اليمين الفرنسي “المتطرف”، بقيادة التجمع الوطني الذي تتزعمه مارين لوبان، يتوقع أن يحافظ على النتيجة التي حققها في الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية، على نحو كان سيخوّله الحصول على الحقّ في تشكيل الحكومة والوصول إلى السلطة للمرة الأولى في تاريخه، إلا أن تحالفاً “انتهازياً” عُقد بين الجبهة الشعبية الجديدة اليسارية، بقيادة ميلونشون، وحزب ماكرون، قضى بتبادل الأصوات على نحو يُسقط عدداً من مرشحي التجمع الوطني اليميني، وأدّى إلى قفز الجبهة الشعبية الجديدة اليسارية إلى المركز الأول، وحلول حزب ماكرون ثانياً، بينما تراجع حزب التجمع الوطني اليميني إلى المركز الثالث، الأمر الذي حرمه من حق التسمية لتشكيل الحكومة، وأبعده عن السلطة لمصلحة الجبهة الشعبية الجديدة اليسارية “المتطرفة”.
والجدير ذكره أن أكثر من 200 مرشح يساري ووسطي انسحبوا من الجولة الثانية، في محاولة لتجنب تقسيم الأصوات، الأمر الذي جعل الجبهة الشعبية الجديدة اليسارية تحصل على أكبر عدد من المقاعد في الجولة الثانية الحاسمة.
حصلت الجبهة الشعبية على 182 مقعداً في الجمعية الوطنية الفرنسية، بينما نجح التحالف الوطني، المصنّف من يمين الوسط، بقيادة ماكرون، في نيل 163 مقعداً، خلافاً للتوقعات التي كانت تمنحه أقل من ذلك كثيراً، لو أنه لم يتحالف مع اليسار المتطرف. أما حزب التجمع الوطني بقيادة لوبان فحصل على 143 مقعداً، متراجعاً بدرجة كبيرة عن النتائج التي حققها في الجولة الأولى من الانتخابات، نتيجة تحالف اليسار المتطرف ويمين الوسط ضده.
لماذا إبعاد اليمين “المتطرف”
ما ذكرناه آنفاً يطرح التساؤل: لماذا كان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، مستعداً للتحالف مع اليسار “المتطرف” والمساهمة في منحه الأغلبية والحق في تشكيل الحكومة على السماح للتجمع الوطني بالفوز بأغلبية المقاعد وتشكيل الحكومة؟
الجواب يكمن في عدة أسباب، أولها أن هذا التحالف مكّن حزب ماكرون من تحسين وضعه، والقفز إلى المرتبة الثانية، في مقابل حصول اليسار “المتطرف” على المرتبة الأولى، واليمين “المتطرف” على المرتبة الثالثة.
أما السبب الثاني فيكمن في أن الجبهة اليسارية الجديدة، على الرغم من أن نواتها وقيادتها هما من اليسار الراديكالي، فإنها تضم أحزاباً يسارية “مدجَّنة” تاريخياً من جانب السلطة الفرنسية، وعلى رأسها الحزب الاشتراكي الفرنسي من جهة، وحزب الخضر من جهة أخرى، وكلاهما من الأحزاب التي تنصاع لأجندات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، “الناتو”، من جهة أخرى.
الجدير ذكره أن ماكرون قد يراهن على الخلافات التي يمكن ان تحدث داخل الجبهة الشعبية الجديدة، وخصوصاً بين أحزاب الخضر والاشتراكي واليسار الراديكالي، على نحو يؤدي إلى خروجها من كنف الجبهة، وبالتالي استعادة حزب ماكرون أغلبية الأصوات، ثم إعادة تشكيل الحكومة.
وحتى إذا تمكنت الجبهة الشعبية من تشكيل الحكومة فإن عملها سيبقى مضبوطاً من جانب أحصنة طروادة الأطلسية داخلها. في المقابل، فإن جماعة اليمين الفرنسي المتطرف تشكل كتلة أكثر صلابة وتضامناً من جماعة الجبهة الشعبية، الأمر الذي كان سيشكل تحدياً كبيراً لماكرون لاختراق صفوفهم.
الموقف تجاه روسيا هو الفيصل
كثيرون عزوا سعي النخبة الفرنسية التقليدية الحاكمة لإبعاد اليمين الفرنسي المتطرف عن السلطة إلى دور اللوبي الصهيوني في الضغط من أجل منع حزب لوبان من الوصول إلى السلطة.
لكنّ الجدير ذكره أن اليمين الأوروبي المتطرف اليوم هو غير اليمين الأوروبي المتطرف في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، والذي كان يجاهر بالعداء لليهود. فاليوم، نتيجة تشابك المصالح بين الرأسمالية المحلية، التي يعبّر عنها اليمين المتطرف من جهة، والرأسمالية المالية التي تتمتع فيها الصهيونية بنفوذ كبير، أسقط اليمين الأوروبي المتطرف من أجندته العداء لليهود. كذلك، فإن صعود الإسلاموفوبيا في أوروبا جعل اليمين المتطرف يحصل على عدو جديد يركّز عليه، متمثّلاً بالعرب والمسلمين، في مقابل إسقاط العداء لليهود.
والجدير ذكره أن مارين لوبان، فور إعلان نتائج الجولة الأولى من الانتخابات، التي فاز فيها حزبها، قالت إنها “صهيونية”، في رسالة إلى اللوبي الصهيوني في فرنسا، مفادها أن سياساتها ستكون مراعية للمصالح الصهيونية في فرنسا في حال استلامها السلطة، علماً بأنها لم تعلن أي موقف يَدين “إسرائيل” نتيجة العدوان الذي تشنه على غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
قد يتمثل الجواب عن سبب دور دوائر السلطة الأوروبية التقليدية في إبعاد اليمين الأوروبي، وضمنه الفرنسي، عن الحكم، في موقف هذا اليمين بشأن الصراع الدائر في أوكرانيا. لقد تميز موقف اليمين الأوروبي “المتطرف”، مثل حزب البديل في ألمانيا والتجمع الوطني في فرنسا، بموقف معارض لدعم نظام الرئيس الأوكراني، المنتهية ولايته، فولوديمير زيلنسكي، ضد موسكو.
وينطلق موقف اليمين الأوروبي “المتطرف” من وعي مصالح بلدانه الاقتصادية، والتي كانت تعتمد على مصادر طاقة رخيصة من روسيا من جهة، وإيمان هذا اليمين بأن روسيا يمكن ان تؤدي دوراً محورياً في ضبط الأمن والاستقرار في أوروبا الشرقية، من جهة أخرى، كما كانت تفعل خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، علما بأن أوروبا الشرقية كانت دائماً تشكل الخاصرة الرخوة لأوروبا.
أوروبا وروسيا
هذا الأمر جعل اليمين الأوروبي المتطرف، وضمنه حزب التجمع الوطني، يتناقض مع الأجندة الأطلسية التي ترسمها، في الدرجة الأولى، واشنطن، والقائمة على إحداث شرخ بين أوروبا وروسيا، بغية تحقيق الهيمنة على أوروبا ومحاصرة روسيا.
وخشيت النخب الأطلسية الأوروبية، التابعة للولايات المتحدة، أن تتكرر تجربة هنغاريا التي يحكمها حزب يميني بقيادة فيكتور أوربان، وأن تنتقل إلى دول أوروبية أخرى، الأمر الذي يوسّع الخرق داخل أوروبا، ويجعل عدداً من البلدان الأوروبية الوازنة، مثل فرنسا وألمانيا، تنضم إلى هنغاريا في كسر الحصار الأوروبي المفروض على موسكو.
وهذا ما يفسر أن نخباً أطلسية ألمانية، متمثلة بالحزب الاشتراكي الألماني، بقيادة أولف شولتز، تبذل جهدها لمنع حزب البديل اليميني المتطرف من الحصول على موقع داخل دوائر القرار الألمانية. كما أن هذا ما يفسر استعداد ماكرون لعقد اتفاق مع اليسار المتطرف ضد التجمع الوطني بقيادة مارين لوبان من أجل منعها من الوصول إلى السلطة.
المصدر: الميادين