عن أوباما وسنودن ووكالة الأمن القومي الأميركية
تجلس في مقعدك الوثير في السينما الواقعة في قلب حي مانهاتن الشهير بمدينة نيويورك لتشاهد الفيلم الجديد عن الشخصية المثيرة للجدل إدوارد سنودن. تتسلّح بكل ما أمكن شراؤه من وسائل التسلية من مقصف السينما: حبات الذرة المقرمشة وقطع الحلويات المعروفة والمشروب الغازي الأميركي الشهير، كي تستدعي استرخاء مطلوباً لفهم أبعاد الفيلم السياسي الكبير الذي يستأثر باهتمام الصحف ووسائل الإعلام الأميركية. تنتظر بصبر انتهاء الإعلانات المقتضبة عن مجموعة من الأفلام المعروضة في صالات أخرى، قبل أن يأتي الدور أخيراً على عرض الفيلم. أخرج الفيلم البوليسي الطراز والإيقاع أوليفر ستون، ولعب دور سنودن الممثل الأميركي جوزيف غوردون ليفيت، ويضم طاقم الفيلم الممثلة ميليسا ليو والممثل زاكاري كوينتو والممثلة الشابة شايلين وودلي. يحكي الفيلم قصة الموظف السابق في «وكالة الأمن القومي» الأميركية، إدوارد سنودن، الذي يكشف «جحيماً سرياً»، كما قال مخرجه أوليفر ستون. ومردّ ذلك الوصف أن إدوارد سنودن، وهو أخصائي كمبيوتر ومعلوماتية لدى «وكالة الأمن القومي» الأميركية، قد سرّب كمية هائلة من المعلومات عن تجسّس الاستخبارات الأميركية والبريطانية على الهواتف والإنترنت داخل أميركا وخارجها، لصحيفتي «واشنطن بوست» و «غارديان» في حزيران 2013. بعدها، فرّ سنودن إلى هونغ كونغ ومنها إلى موسكو، حيث أمضى بعض الوقت في منطقة الترانزيت في مطار موسكو، ليمنح بعدها حق اللجوء المؤقت على الأراضي الروسية. هكذا استكمل سنودن مسلسل الإثارة والجدل بتفجير قضية سياسية داخلية بما كشفه وخارجية أيضاً، إذ أصبح مواطناً أميركياً لاجئاً في روسيا، على العكس من مسار اللجوء الذي عُرف في الأغلب لجوء المواطنين الروس إلى أميركا لأسباب مختلفة.
يدور الفيلم في قالب بوليسي وإيقاع متميّز محاولاً اللعب على شعورين رئيسيين عند المشاهد: الحزن على المآل الذي آل إليه سنودن المطارد واللاجئ بعيداً عن بلاده، والدراما الشخصية لشاب في نهاية العشرينيات من عمره وبداية العقد الثالث انضمّ إلى أعرق وأخطر المؤسسات في أميركا وتدرّج صعوداً فيها بصورة لافتة، من دون أن يمتلك شهادة جامعية أو حتى شهادة إنهاء الدراسة الثانوية، وكل ذلك بفضل قدراته الفذة على اختراق المواقع والبرامج على شبكة الإنترنت أو ما يطلق عليه «هاكر».
يحاول الفيلم تقديم ما فعله سنودن على أنه مفهوم جديد للوطنية الأميركية، حيث أبى سنودن وفقاً لسردية الفيلم، وهو المتمتع بكل أسباب الرفاهية الشخصية، السكوت عن استخدام مؤسسات الأمن القومي الأميركية التقنيات المتوافرة لها للتجسس على ملايين المواطنين الأميركيين، سواء في مكالماتهم الهاتفية أو اتصالاتهم عن طريق الإنترنت؛ مكرراً بصورة فجة في مقاطع مختلفة من الفيلم أن ذلك الأمر يتناقض مع أسس الحريات التي قامت عليها الولايات المتحدة الأميركية. مزج الفيلم بين الوثائقي المتوافر بشدة، وبين تصريحات سنودن الحقيقية بأنه سيعود إلى أميركا وسيمثل أمام القضاء إذا قُدمت له ضمانات بمحاكمة عادلة. كما أعلن أوليفر ستون، مخرج الفيلم أنه يأمل في أن يُمنح سنودن عفواً رئاسياً من الرئيس الحالي باراك أوباما مطلقاً حملة إعلامية لذلك الغرض تتكوّن من «اتحاد الحريات المدنية» و «منظمة العفو الدولية» ومنظمة «هيومن رايتس ووتش». ويُقدّم توقيت عرض الفيلم في شهر أيلول، أي قبل فترة قليلة من خروج الرئيس أوباما من البيت الأبيض ودخول رئيس/رئيسة جديدة إليه، تفسيراً كافياً لكونه مدبّراً ومقصوداً في إطار حملة منظمة ذات هدف سياسي واضح.
ترى الجهات المنظمة للحملة المؤيدة لإدوارد سنودن والمذكورة أعلاه أن تصرف الموظف السابق في «وكالة الأمن القومي» الأميركية قد فرض بالفعل إصلاحات تتعلّق بالشفافية والخصوصية على عمل أجهزة الاستخبارات، وهو ما يوجب الثناء عليه وليس معاقبته. ولذلك يُقدّم الفيلم سنودن على أنه «بطل وطني» وليس خائناً لبلاده، حيث تكمن دوافعه في تسريب آلاف الوثائق ـ وفقاً للفيلم - في الحرص على الديمقراطية والحريات وضرورة منع استغلال السلطة من مؤسسات الأمن القومي. على الأرجح سيواجه أوباما خلال الفترة القليلة المتبقية من رئاسته ضغوطاً معاكسة، حيث أدانت لجنة الاستخبارات في الكونغرس الأميركي بعد تحقيقات دامت سنتين سنودن بالفعل، واتهمته بالاستيلاء على مليون ونصف مليون وثيقة تتعلق بأسرار عسكرية وأمنية، وليس فقط ببرامج المراقبة التي قد تتناقض مع خصوصية المواطنين.
تخرج من السينما إلى الشارع ذي البنايات الشاهقة وفي رأسك ترتسم علامات استفهام كثيرة: كيف يمكن لشخص مهما كان عبقرياً في اختراق المواقع أن يرتقي في أعلى مراتب أجهزة الأمن القومي الأميركية من دون أن يكون حاصلاً على شهادة إتمام الدراسة الثانوية، حتى كمسوّغ للتعيين في مؤسسة بيروقراطية عريقة؟ هل ضربت المعلومات التي سرّبها سنودن إدارة الرئيس أوباما وتحالفاتها في المؤسسات الأميركية أم خصومه؟ كيف توفر لشخص طبيعي من دون مساعدة مؤسسية الهروب من هاواي إلى هونغ كونغ إلى موسكو ويُفترض أن أعتى أجهزة المخابرات الدولية تتعقّبه؟ لمَ كان انضمام المنظمات النافذة في الرأي العام الأميركي والمندرجة في الحملة المطالبة بالإفراج عن سنودن؟ أهو نتيجة اقتناع بالفيلم والدوافع التي قدمها ليقوم بما قام به؟ هل سيستطيع أوباما اتخاذ القرار بالعفو عن سنودن في ضوء تضارب المصالح ومجموعات الضغط في أميركا واحتدام السباق الرئاسي بين كلينتون وترامب؟
نشرت للمرة الأولى في "السفير"