ميركل وأوباما وموت اليونان
يجتمع اليوم في مدينة هانوفر الألمانية الرئيس أوباما والمستشارة ميركل لمناقشة أوضاع اليونان مرة أخرى. منذ عدة سنوات، يتركز اهتمام العالم على اليونان وسوريا، وإذا حكمنا من خلال الحقائق فإن كل هذا "الاهتمام الدولي" كان حتى الآن ذا تأثير سلبي على الوضع في كلا البلدين.
يتم تدمير سوريا بالوسائل العسكرية. أما اليونان فقد دمرت كمجتمع وكدولة، من قبل "شركائها"، في تحالف دولي مالي يمثله على وجه الخصوص صندوق النقد الدولي وبموافقة من إدارة الولايات المتحدة الأمريكية.
بالمناسبة كل وسائل الإعلام الدولية الرئيسية تخفي بوضوح حقيقة الوضع اليوناني، ونحن نفترض أن سبب ذلك هو، الرعبة في حماية المسؤولين عن هذه الكارثة الاقتصادية والاجتماعية التي لم يسبق لها مثيل، وهي كارثة مدبرة وفرضت على هذا البلد تحت عنوان "الإنقاذ" و"المساعدة بحزم"، من قبل الزعماء السياسيين الأوروبيين والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، وكل منهم يعمل بطريقته، وعلى الرغم من خلافاتهم، ولكن بتوجيه من التمويل الدولي الأكبر.
كنت أقرأ مقالا نشر مؤخرا في صحيفة "واشنطن بوست"، تضمن إحصاءات مخيفة عن سقوط الاقتصاد اليوناني. قبل كل شيء، "واشنطن بوست" وضعت التقرير بطريقة أو بأخرى لحماية مصداقيتها. ولكن بعد التشدق بالحقيقة، شرحت لقرائها أن هذا السقوط يعني انخفاضا بنسبة أكثر من 25٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا ما يحدث في البلاد فعلا.
ثم تطرقت المقالة لوصف طويل للخلافات بين صندوق النقد الدولي والأوروبيين واليونانيين. وكذلك مختلف الجوانب التقنية للمفاوضات الجارية.
التحدث عن الإصلاحات ( كيفية جعل أورويل غيورا)
ولكن ليس هناك أي شرح في المقالة عن تلك "الإصلاحات" المقدمة من ميركل وهولاند وليو وبايدن ولاغارد ودراجي وغيرهم، من الذين يطلبون من اليونانيين عدة سنوات لتنفيذ هذه الإصلاحات، ولم يتضح ما هو مخفي بالضبط وراء هذا المصطلح اللطيف "الإصلاحات".
لإعطاء مثال واحد فقط، كانت ميزانية جامعة أثينا كمؤسسة تعليمية مرموقة تقدر بـ88 مليون يورو قبل الأزمة. الآن أصبحت 4 مليون يورو نتيجة لـ"الإصلاحات" التي فرضت على البلاد، لأن صندوق النقد الدولي يطلب المزيد من التخفيضات في الإنفاق الحكومي اليوناني. ربما سيكون من الأسهل أن نطلب إلغاء التعليم العام والرعاية الصحية في اليونان، وسيكون أيضا أكثر إنسانية العمل على توفير نوع من القتل الرحيم للمتقاعدين، بدلا من أن نسبب لهم الموت البطيء والمؤلم عن طريق الخفض التدريجي لمعاشاتهم التقاعدية لتصل إلى أقل من الحد الذي يكفيهم للتغذية أو يمكنهم من العلاج.
سيحاولون أيضا من خلال الاجتماعات الأوروبية والدولية المطولة والمكلفة جدا حول اليونان أن يحققوا الهدف الوحيد لديهم وهو أن يقرروا بإيقاع دقيق الوفاة لهذه الأمة.
تدمير وإذلال البرلمان اليوناني
بالمناسبة، لم أكن أقرأ العديد من المقالات في تلك الصحف الأمريكية والأوروبية المرموقة، التي تصف ما حدث بعد استسلام تسيبراس في يوليو/تموز تحت التهديد والابتزاز. على سبيل المثال، طلب الدائنون من الحكومة تقديم ألفي صفحة من التشريعات الجاهزة التي تنظم كل شيء. وكانوا مهتمين بصفة خاصة بإلغاء كل أشكال الحماية للمواطنين اليونانيين بما يخص حقوق الدائنين، مثل إلغاء الحماية عن منازلهم التي يعيشون فيها، عندما تكون تلك المنازل في حالة الرهن.
لم يتحدث أي صحفي أجنبي لتلك السيدة، (حوالي 60 سنة)، التي التقيت بها قبل بضعة أيام بينما كنت داخلا إلى محطة مترو ايفانجليسموس، في وسط أثينا. كانت تجلس هناك، وقالت أنها لاحظت أني كنت أنظر إليها وفكرت أنها من خلال عيني التي تنظر إليها بشكل مباشر، -وكانت محقة- قد اخترقت حاجز روحي. قالت "لقد طردت من بيتي منذ ستة أيام. ماذا سأفعل؟ أين سأبقى؟"، ولكن ما كان صادما حقا لم يكن ما قالته، بل هو ذلك الرعب المطلق الظاهر عليها من الوهلة الأولى. الآن يضغط صندوق النقد الدولي بشدة على الحكومة اليونانية من أجل تطبيق ما قد صوت عليه في يوليو/تموز الماضي، وبيع قروض الناس إلى صناديق الشدة الخارجية، التي تعمل بالتعاون مع البنوك المحلية. هذا هو نوع من "إصلاحات" الساسة الأوروبيين والأمريكيين وسلطات الاتحاد الأوروبي الذين يطالبون اليونان بتنفيذها وهم غير راضين أبدا عن الطريقة التي يطبق اليونانيون من خلالها هذه الإصلاحات!
في يوليو/تموز أرادوا معاقبة وإذلال الحكومة اليونانية المستسلمة أساسا، وأجبروها على تمرير هذه الصفحات الألفين من التشريعات الجديدة على البرلمان في ثلاثة أيام فقط. لا أحد يمكنه أن يترجم ذلك في ثلاثة أيام، لذلك استخدمت السلطات اليونانية برامج الترجمة الآلية. وهذه الترجمة الآن بحاجة إلى تصحيح، لأن هذه البرامج تسبب الكثير من الأخطاء، وأخيرا، على الحكومة والنواب، الذي يغرق نصفهم في النوم، قضاء ليلة كاملة في مناقشة القانون للوفاء بالموعد النهائي للدائنين.
وسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية لا تتحدث عن كل هذه الأشياء. ربما لأنهم يخشون أنه، إذا فهم المواطنون الأوروبيون ما يحدث مع اليونان فسيعلمون أن القضية ليست حول اليونان و"الدين" ولكنها حول مستقبل كامل يستعد له جميع الأوروبيون.
معاملة اليونان كدولة مُحتلة
أنا أقرأ مقالات مختلفة حول مفاوضات صندوق النقد الدولي وألمانيا والاتحاد الأوروبي واليونان بشكل متواصل. ولكن لم أر أي صحيفة تتحدث عن المعلومات التي تنشرها دورية تسمى "أغورا"، تصدر أسبوعيا في اليونان، كشفت في 2 أبريل/نيسان، من بين أمور أخرى، أن الدائنين يطالبون اليونان بأن يقوموا بأنفسهم (أي الدائنون) بتعيين المدراء ومجالس إدارة مؤسسات الدولة الرئيسية والإشراف عليها وهي لا تزال تحت سيطرة الدولة (مثل شركة المياه، والبريد اليوناني، وشركة إدارة الممتلكات العامة للدولة وغيرها).
الفساد في اليونان
من هو المسؤول عن هذه الكارثة؟ هل يمكن أن تكون الحكومات الأوروبية "المحترمة"، أم الاتحاد الأوروبي، أم صندوق النقد الدولي؟ لا، فهذا من المستحيل. إنهم ليسوا أولئك السادة "المحترمين". لذلك يبقى احتمال واحد للجاني المحتمل لهذه الجريمة. إنهم اليونانيون أنفسهم.
تذكر "واشنطن بوست" قراءها أنه قبل كل شيء هناك مشكلة كبيرة من خلال الفساد وسوء الإدارة في البلاد. من يمكنه أن يعترض على ذلك القول؟ ولكن لماذا لا تقدم "واشنطن بوست" أو الصحف الأوروبية لقرائها التحليلات عن فضيحة شركة "سيمنز" أو ما فعلت شركات الدفاع الأمريكية في صفقات بيع الأسلحة إلى اليونان؟ لماذا لا تقدم إلى القراء حقيقة أن هذه الشركة الألمانية قامت برشوة كبيرة للحزبين الرئيسيين في السلطة في اليونان وللكثير من المسؤولين في الدولة؟ هناك مادة وافرة عن هذا كله. لكن من هم اليونانيون الفاسدون، ومن هو الذي أفسدهم ومن يتحمل مسؤولية العواقب الناتجة عن كل هذا الفساد؟ نأمل أن "اشنطن بوست" ستنشر قريبا تقريرا تحليليا جيدا عن هذا كله. لن تحتاج إلى الكثير من أعمال التحقيق، فهناك الآلاف من المنشورات في الصحف اليونانية وفي استنتاجات اللجنة البرلمانية التي حققت في هذه الفضيحة.
وكان السياسيون المرتشون، بالمناسبة، من المتعصبين في المساعدة على فرض اقتراح صندوق النقد الدولي وألمانيا بـ"إنهاء الرعاية الطبية" في اليونان.
ربما سوف تقول لي أن اليونانيون قبل كل شيء كانوا مسؤولين عن انتخاب تلك الأحزاب وإيصالها إلى السلطة. حسنا، ولكن ماذا حدث بعد ذلك؟ ولماذا اجتمعت الحكومات الأوروبية والاتحاد الأوروبي عام 2012، عندما كان اليونانيون يريدون التغيير وانتخبوا سيريزا، وحينها بدأت حملة من الإرهاب والابتزاز لاقناع اليونانيين بالتصويت للأحزاب وللسياسيين الفاسدين القدامى.
صحيح أنهم لم يكرروا هذه الحملة في يناير/كانون الثاني 2015 (فعلوا ذلك قبل الاستفتاء في يوليو/تموز). ولكن كان هذا لأنهم اعتقدوا في عام 2015 بأن سيريزا لن ينفذ ما وعد به.
خلال الدكتاتورية العسكرية في الفترة 1967-1974، التي فرضتها منظمة حلف شمال الأطلسي مع وكالة المخابرات المركزية على اليونان (الرئيس كلينتون نفسه، في لفتة نادرة نوعا ما، اعتذر عن هذا في عام 1999)، واليونانيون يحاولون الإبلاغ عن أنفسهم، من خلال الصحافة الأجنبية مثل "دويتشه فيله" و"بي بي سي" وغيرها، بأنهم كانوا ينظرون إلى أوروبا كمصدر للأمل والحرية لليونانيين خلال قرنين من الزمان. أما الآن فقد أصبحت أوروبا بالنسبة لهم مصدرا للخوف وخيبة الأمل والإهانات المستمرة. وكما قال فورافوكيس، في الوقت الحاضر تتم الانقلابات فقط عن طريق البنوك.
اليونان والشرق الأوسط
استحوذ مسار الكارثة في كل من اليونان وسوريا أهمية تاريخية وأساسية واسعة النطاق أكثر بكثير من أهمية اليونان وسوريا نفسهما. لأنه يتم استخدام كل منهما لتدمير أوروبا. ومن خلال هذا المصطلح نقصد الوضع العام، النظام الذي ساد في الجزء الغربي من القارة الأوربية منذ العام 1945، هو نظام تميز بمناخ ديمقراطي نسبيا ودولة رفاه عامة. وقد وجدت مثل هذه الدولة في الواقع في كل من الأجزاء الاشتراكية والرأسمالية من القارة بعد الحرب العالمية الثانية بشكل نسبي، وهي لا تزال واحدة من أهم الانجازات التاريخية للبشر وحضارتهم.
كثير من الناس ينتقدون هذا النظام "الديمقراطي المزيف" أو "حكم الأقلية" أو العديد من المفاهيم الأخرى. هم ربما على حق، ولكن هذا لا يعني أن هذا النظام لا يمكن أن يحل محله نظام أسوأ من ذلك بكثير. كان الاتحاد السوفياتي على سبيل المثال هيكل غير مقبول على الاطلاق. ولكن تم استبدال ما يسمى "دكتاتورية البروليتارية" بنظام "الأقليات البيروقراطية" "السارقة" وأحيانا الديمقراطية "المافيوية"، (في عام 1991 أيضا تحت إشراف صندوق النقد الدولي). عدا عن اختفاء الاتحاد السوفييتي كقوة موازنة لاحتكار الولايات المتحدة للقوة العالمية.
وفي هذا السياق، فإن تدمير أوروبا ما بعد الحرب، الذي عرفناه أعلاه، هو شرط مسبق ضروري لإطلاق "حروب الحضارات" الجديدة، بما في ذلك الحرب الشاملة مع الإسلام، ومع روسيا، وغدا مع الصين. والعكس بالعكس.
ويبدو أن الرئيس أوباما يفهم ما يجري في الشرق الأوسط. واستطاع بطريقة أو بأخرى احتواء الحماقة الليبرالية الجديدة التي تكشفت هناك. وكانت لديه الشجاعة لبناء تحالف تكتيكي مع بوتين لتحقيق هدف استقرار الوضع ووقف خطط الحرب ضد إيران، والتي قد تؤدي إلى النزاع النووي الأول بعد عام 1945.
ولكن في الشرق الأوسط، أوباما صاغ حجة منطقية تماما. بعد أن اكتشف الكثيرون في الولايات المتحدة من مؤسسات وحتى داخل الجيش الأمريكي، وأجهزة المخابرات، أن الحروب في الشرق الأوسط بعد عام 2001 لم تكن في المصلحة الوطنية للولايات المتحدة.
مع السياسة الاقتصادية و"حروب الديون" المتبعة، حيث تتحقق مصالح هائلة، هناك البيروقراطيات الضخمة، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي، التي تعمل كوكلاء "لرأسمالية الكوارث"، وفقا لمبادئ إجماع واشنطن وأيديولوجية الليبرالية الجديدة. عليك أن تكون شخصا يفهم تاريخيا كتابات هيلموت شميت أو العبقرية الشعرية لغونتر غراس لفهم، إلى أين سيقود كل هذا. لديك دراسة فاوست، إذا أردت أن تفهم الآلية التي يتبعها قادة برلين، في التحالف مع النظام المالي الدولي، وتعمل على تدمير اليونان وأوروبا، وأخيرا، ألمانيا نفسها.
وشكر نائب رئيس الوزراء اليوناني يانيس دراغاكيس علنا الادارة الامريكية لمساعدتها على تحقيق "اتفاق الاستسلام" في يوليو/تموز 2015، والذي أكد استمرار تدمير اليونان. وفقط قبل بضعة أيام، كرر وزير الدفاع اليوناني بانوس كامينوس وهو أيضًا زعيم أقلية سيريزا في تحالف "اليونان المستقلة" أنه بدون مساعدة من الإدارة الأمريكية، كان تنفيذ "اتفاق" يوليو/تموز مستحيلا. وذلك عندما كان يحاول أن يشرح لماذا تستمر اليونان والولايات المتحدة الأمريكية كحليفين قويين.