موسكو ومعضلة أسعار النفط
المتابع لردود الفعل الروسية على إخفاق مفاوضات الدوحة بشأن تجميد إنتاج النفط عند مستويات شهر يناير/كانون الثاني 2016، يلحظ مدى الحيرة، وربما الإحباط، الذي أصاب وسائل الإعلام وبعض المسؤولين في روسيا. ويُردد الروس أن عدم التوصل إلى اتفاق «التجميد» كان غير متوقع ومفاجئاً بالنسبة إلى موسكو. وفي هذا السياق، يقول وزير الطاقة الروسي، ألكسندر نوفاك، «إن اتفاقية التجميد جرى العمل عليها وإعدادها قبل لقاء الدوحة، ولكن بعض دول «الأوبك» غيرت موقفها صبيحة يوم اللقاء، مُشترطة تنفيذ الاتفاقية من قبل الدول الأعضاء في المنظمة كافة، ومن قبل المصدرين الكبار من خارج أوبك». ويرى خبراء روس أن السعودية استخدمت لقاء الدوحة «لقتل» أي أمل في رفع أسعار النفط واستقرار السوق النفطية. غير أن قلة من المراقبين الروس ترى أن هذا الأمر غير واقعي، لأن الرياض نفسها تضررت من انهيار الأسعار.
وفي ما يتعلق بموقف طهران الرافض لتثبيت إنتاجها من النفط، إلا بعد وصوله إلى المستوى الذي كان عليه قبل العقوبات، أي 4 ملايين برميل يومياً، يرى خبراء روس أن إيران هي العضو الوحيد بمنظمة «أوبك» الذي لا يخسر شيئاً من تراجع أسعار النفط، على اعتبار أن حصولها على أي عوائد من بيع نفطها، ولو بأسعار مُخفضة، يمثل مكسباً لها في الأحوال كافة مقارنة بفترة العقوبات. ويعتقد هذا الفريق أن عدم مشاركة طهران في لقاء الدوحة يمثل رسالة إلى السعودية، مفادها أن شروط ومطالب الأخيرة لا تعني لها أي شيء. ويتكهن هؤلاء بصعوبة أن تتفق إيران مع السعودية، بأي حال من الأحوال، على موضوع النفط بسبب التناقضات السياسية والصراع الجيوسياسي الحالي بينهما.
ويطرح الإعلام الروسي فرضيات عدة لما جرى في السابع عشر من الشهر الجاري في العاصمة القطرية. أول هذه الفرضيات أن السعودية تعمدت إفشال الاتفاق، رغبة منها في إشعال موجة جديدة من انهيار أسعار النفط والنزول بها إلى مستوى عشرين دولاراً للبرميل، بهدف إضعاف منافسيها في السوق النفطية. وتتعلق الفرضية الثانية بأن رفض إيران تثبيت إنتاجها النفطي يُعد منطقياً، ويهدف في ما يهدف إلى ضرب السعودية وهيبتها. أما الفرضية الثالثة، فتقول بأن ما جرى كان «مسرحية» شارك فيها جميع مصدّري النفط، للاستفادة من جو التفاؤل الذي ساد قبل اللقاء المذكور، والذي دفع بأسعار النفط نحو الصعود بعض الشيء. وبشكل عام، يميل الإعلام الروسي إلى تحميل السعودية مسؤولية فشل لقاء الدوحة للدول المصدرة للنفط في التوصل إلى اتفاق لتثبيت الإنتاج لوقف تدهور أسعار النفط العالمية. فصحيفة «موسكوفسكي كومسوموليتس» الروسية تشير، مثلاً، إلى أن السعودية غيرت موقفها من اتفاق تجميد مستوى إنتاج النفط فجأة. وتؤكد الصحيفة أنه قبل لقاء الدوحة اتفقت موسكو والرياض على عدم اشتراط موافقة إيران لتمرير اتفاقية «التثبيت». وكانت وسائل إعلام روسية قد سربت قبل لقاء السابع عشر من نيسان الجاري أن روسيا والسعودية اتفقتا على تجميد إنتاج النفط عقب مشاورات بين وزيري النفط الروسي والسعودي. لكن نتائج لقاء الدوحة أثبتت عكس ذلك تماماً، ودفعت بوزير الطاقة الروسي، ألكسندر نوفاك، للإعلان بعد هذا اللقاء عن خيبة أمله من نتائجه. وألمح نوفاك إلى أن فشل لقاء الدوحة كان بسبب الرياض، مطالباً بتثبيت الإنتاج بغض النظر عن الموقف الإيراني. من جانبها، ترى صحيفة «روسيسكايا غازيتا»، لسان حال الحكومة الروسية، أن فشل لقاء الدوحة لا يعني توقف المشاورات بين الدول المنتجة للنفط من داخل وخارج منظمة «أوبك»، معربة عن أمل موسكو في إجراء مشاورات جديدة مستقبلاً حول تجميد مستويات الإنتاج. ويتوقع الروس أن تتراجع أسعار النفط في الفترة القادمة إلى 35 دولاراً للبرميل أو ما دون ذلك، ومن ثم تراجع سعر صرف الروبل الروسي مجدداً. ويربطون عدم حدوث هذا التراجع بعد لقاء الدوحة، مباشرة، بالإضراب الراهن في قطاع النفط الكويتي، وارتفاع واردات الصين مؤخراً من الذهب الأسود.
برغم بعض التباين في المواقف الروسية من أسباب اخفاق لقاء الدوحة، إلا أن الروس يكادون يتفقون على أن استمرار تراجع أسعار النفط سيخلق صُعوبات مُضاعفة أمام الاقتصاد الروسي في ظل عجز ميزانية الدولة وتخفيض النفقات العامة بــ 10 في المئة، وانكماش الناتج المحلي الإجمالي. يُضاف إلى ذلك انخفاض الأجور والدخول الحقيقية للسكان، وتوقف بعض الشركات الروسية عن تسديد أجور العاملين فيها خلال الشهور الماضية لغياب الموارد اللازمة لذلك. ففي الأول من الشهر الجاري، أعلنت هيئة الإحصاء الروسية أن إجمالي المديونية المترتبة على عدم سداد أجور العاملين، من دون حساب قطاع الأعمال الصغير، ارتفعت 35.4 في المئة مقارنة بشهر آذار الماضي. وأشارت هيئة الإحصاء إلى أن العدد الإجمالي للعاملين، الذين لم يتسلموا أجورهم من أرباب العمل، يُقدر حاليا بــ 78 ألف شخص، ولكنها تُقلل من أهمية هذا الأمر على أساس أن العدد المذكور يمثل أقل من واحد في المئة من العاملين في الاقتصاد الروسي ككل.
هكذا، فإن المخاوف الروسية من عدم الاتفاق مستقبلاً على تثبيت إنتاج النفط كبيرة، لما لذلك من آثار سلبية جديدة محتملة على أزمة الاقتصاد الروسي الراهنة. وتقف موسكو حائرة بين الرياض وطهران. فهي لم تتمكن من التوافق مع السعودية على تجميد الإنتاج، ولم تتمكن كذلك من إقناع إيران بالمشاركة في هذه العملية قبل وصول إنتاجها إلى مستواه السابق على العقوبات. ومن ثم لا يتبقى أمام الروس إلا الأمل في مواصلة المشاورات من أجل التوصل الى اتفاق لتجميد مستويات الإنتاج، يترتب عليه رفع أسعار النفط العالمية بدرجة ما، قد تساعد الاقتصاد الروسي على تجاوز أزمته.
جريدة "السفير"