موسكو و"درع الفرات"

02.09.2016

يبدو أن موسكو الرسمية لم تنزعج كثيراً من دخول القوات التركية مصحوبة بفصائل من «الجيش السوري الحر» وغيره من الفصائل المسلحة إلى شمال سوريا في 24 آب الماضي. فالخارجية الروسية اكتفت بالإعراب عن «القلق» بشأن الوضع على الحدود التركية السورية واحتمال تدهور الوضع الأمني وتصعيد الخلافات بين العرب والأكراد بعد انطلاق العملية العسكرية التركية. والإعراب عن «القلق» هذا يمكن تفسيره في اتجاهين. يتعلق الأول بالمُصالحة الروسية ـ التركية وزيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لبطرسبورغ وتفاهمه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على عملية عسكرية تركية «محدودة» في شمال سوريا. ويفترض الاتجاه الثاني غياب مثل تلك التفاهمات بين الجانبين حول العملية العسكرية التركية في الشمال السوري. وعلى خلفية رد الفعل الرسمي الروسي «الهادئ»، يُرجّح كثيرون الاتجاه الأول في التفسير، ويعللونه بأنه سيعمل على مزيد من التقارب بين موسكو وأنقره، في ظل ما يشوب العلاقات الأميركية ـ التركية من مشاكل حالياً، خاصة بعد الانقلاب العسكري الفاشـــل في تركيا. كما يُرجّح أصحاب التفسير الأول أن التفاهم الروسي ـ التركي على العملية العسكرية التركية في شمال سوريا قد يكـــون مقابل تفاهم آخر مُرضٍ للجانبين حـــول مصير الرئيس الســــوري، الذي ظــــهرت بوادره في التلميحـــات التركية بقبول بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية، على أقل تقدير.

إن عملية «درع الفرات» تُلبي لأردوغان رغبته في وقف ما يسمّى «المشروع الكردي» على حدود بلاده، خاصة بعد الانقلاب العسكري الفاشل. وهي تلبي لموسكو رغبتها بضم تركيا إلى محاربة تنظيم «داعش»، وربما غيره من التنظيمات التي تعتبرها روسيا إرهابية. فصبيحة العملية العسكرية التركية في سوريا، صرح مصدر في وزارة الخارجية الروسية بأن «جهود محاربة الإرهاب على الحدود السورية ــ التركية تكتسب في المرحلة الراهنة أهمية أكبر من أي وقت مضى، داعياً أنقرة إلى «تنسيق تلك الجهود مع الحكومة السورية». ويبدو أن موسكو تعمل حالياً في هذا الاتجاه، في ظل ما يتردّد من اتصالات سرية بين أمنيين سوريين وأتراك، وفي ظل ما أوردته وسائل إعلام روسية من أن موسكو طلبت من أنقرة مؤخراً اطلاعها على خطط عملياتها في شمال سوريا لتجنّب وقوع حوادث على الأرض أو في السماء السورية، حيث من المفترض أن يزور وفد عسكري روسي برئاسة رئيس هيئة الأركان العامة الروسية العاصمة التركية خلال الفترة المقبلة. علماً أن هذه الزيارة كانت مقرّرة يوم 26 آب الماضي، لكن تمّ تأجيلها بعض الوقت.

المراقبون الروس يُجمعون تقريباً على أن أنقرة أبلغت موسكو بعملياتها العسكرية في شمال سوريا قبل أن تبدأ، وأن الجانب الروسي تفهّم هذا الأمر. ومع ذلك ينتقد البعض منهم بـ «خجل» هذه العمليات، حيث يشيرون إلى أنها تجري بحجة محاربة «الإرهاب» من دون تنسيق مع مجلس الأمن الدولي أو الحكومة السورية. بيد أن هؤلاء المراقبين يعتقدون، في الوقت ذاته، أن هذا «لا يعني أبداً أن هؤلاء اللاعبين راضون بحرب أردوغان، الذي يسعى لتحقيق أهدافه الخاصة بإبعاد الأكراد تماماً عن الحدود التركية السورية، وإفشال مشروعهم المتعلق بإنشاء كيان كردي». فريق آخر من المراقبين الروس يرى أن ما تقوم به تركيا في الشمال السوري يصب، بدرجة أو بأخرى، في مصلحة الرئيس السوري، لكنهم لا يستبعدون أن تؤدي العملية العسكرية التركية إلى تحقيق حلم أنقرة بإنشاء منطقة عازلة يمكن أن تصبح مكاناً لمعسكرات اللاجئين وتدريب مقاتلي المعارضة المعتدلة. ويظنّ فريق ثالث من الروس أن واشنطن كانت مضطرة لتأييد العملية التركية في الشمال السوري من أجل تحسين العلاقات مع أنقرة بعد الانقلاب الفاشل، وبعد التقارب الروسي ـ التركي. ويؤمــن هذا الفريق بوجود اتفاق «روسي ـ إيراني ـ تركي» على «درع الفرات» مع الولايات المتحدة، تمهيداً للعودة إلى مفاوضات جنيف بشأن التسوية السلمية للأزمة الســــورية. ويركز هذا الفريق على أن الاتفاق هذا مرتبط أساساً بوجود حدود معـــينة للتدخل التركي في شــــمال سوريا. وهذا يدفع بفريق رابـــع من المراقبين الروس للحديث عن «طبخة» يجــــري التفاهـــم عليها في الوقت الراهن للتسوية في ســـوريا، تُراعي مصالح ونفــــوذ الأطراف الدولية الأســـاسية المُتنازعة على الكعكة السورية، وذلك في أي تسوية محتملة.

هكذا، نلاحظ أن الموقف الروسي الرسمي لا يخرج، حتى اللحظة، عن الإعراب عن «القلق» تجاه العمليات العسكرية التركية في شمال سوريا، من دون انتقادها. لكن موسكو تعطي إشارات بأنها تحاول إقناع الجانب التركي بضرورة التنسيق مع الحكومة السورية. وربما هذا الغرض سيكون أحد محاور اللقاء المرتقب بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره التركي مولود تشاويش أوغلو، الذي جرى الاتفاق عليه بعد محادثة هاتفية بينهما في 31 آب المنصرم. والسؤال الحائر حالياً يتعلق برد الفعل الذي ستتخذه موسكو في حال خروج أنقرة عن الحدود المرسومة لعملياتها العسكرية الحالية، والتي يُقال إنه تم التفاهم عليها بين الجانبين الروسي والتركي، خاصة أن تركيا مُنحت فرصة لا تقدَّر بثمن لتكون موجودة عسكرياً وبشكل مباشر على الأرض الســـورية بجانب أطــــراف أخرى. وسيـــوضح رد الفعل هذا مدى التفاهم بين الجانبين على عملية «درع الفرات»، ومدى استعداد روسيا للاكتفاء بالقـلق. وسيوضح أيضاً ما إذا كان مثل هذا التفاهم له وجود أصــلاً بين الجانبين، في ظل محاولات روسيـــة حثيثة للتوصـــل إلى اتــفاقات أو تفاهمات مع واشنطن بشـأن الأزمة السورية.

نشرت للمرة الأولى في "السفير"