مستقبل العلاقات الخليجية - الروسية

16.05.2016

ظلت الولايات المتحدة حجر الزاوية في التحالفات الخليجية منذ عقود، وتعززت هذه العلاقة بقوة بعد حرب تحرير الكويت. ثم استمر التحالف الوثيق لأكثر من عقدين ونصف العقد، حتى بات يُنظر إليه بوصفه من الثوابت غير القابلة للتغير، وبخاصة أن المصالح المشتركة بين طرفيه - الولايات المتحدة ودول الخليج - بقيت على حالها.
التزمت دول الخليج العربي بمقتضيات هذا التحالف، مع الاحتفاظ بمساحة كافية من حرية الحركة تجاه قضايا ذات طابع خاص، وعلى رأسها الموقف من القضية الفلسطينية، إذ انتقدت دول الخليج على الدوام الدور الأميركي غير المتوازن فيها.
التحالف كان مفيداً للطرفين بالتأكيد، وهذا ما سمح باستمراره، غير أن الجانب الأميركي أخل إخلالاً جسيماً بالجانب الأكثر أهمية في تعهداته والتزاماته، وهو الإسهام في حفظ الاستقرار في المنطقة، بل على العكس من ذلك، أصبحت التحركات الأميركية تثير من الريبة أكثر ما تثير من الاطمئنان. وإذا كان أهم الأخطار الأمنية في المنطقة في الوقت الحالي يتمحور حول إيران والتمدد الهائل للإرهاب، فإن سلوك الولايات المتحدة في الملفين يدعم قوى الاضطراب والفوضى، ويعبث بأسس استقرار المنطقة وأمنها.
ومن هنا، فإن بناء دول الخليج تحالفات جديدة من أجل ضمان استقرار المنطقة يصبح فرض عين سياسياً، على اعتبار أن الاستقرار هو الحاضنة الطبيعية للتطور السياسي والاقتصادي الذي شهدته جميع دول مجلس التعاون. وهذه التحالفات الجديدة يمكن أن تشمل دولاً مثل الهند أو الصين أو الدول الأوروبية، سواء منفردة أم من خلال الاتحاد الأوروبي، لكن روسيا تبقى المرشحة لدور أكبر في الترتيبات الجديدة بحكم عوامل شتى. وهناك من الأدلة ما يرجح أن دول الخليج ستعمل على جعل موسكو جزءاً من معادلة حفظ الاستقرار في المنطقة.
تأتي مكافحة الإرهاب على رأس أولويات دول الخليج اليوم، بعد أن تفاقم خطره وطاولت جرائمه البشعة بلداناً خليجية. وروسيا هي الطرف الذي يحارب الإرهاب بلا هوادة، ويمكن أن يُعتمد عليه خليجياً في مواجهة الخطر المشترك المتمثل في عودة المقاتلين إلى بلدانهم، وكثير منهم من القوقاز أو من دول خليجية، وهو ما يعني أن منازلة مريرة تبدو في الأفق، ويحتاج الطرفان فيها - دول الخليج وروسيا - إلى التعاون وربما التحالف الوثيق، ولا سيما أن دول الخليج باتت تمتلك خبرات عملية وميدانية في محاربة الإرهاب والتطرف، وهي لا تزال تقوم بذلك بكفاءة عالية في اليمن.
ميزة الموقف الروسي تجاه الإرهاب هي وضوحه وقوته وعدم قابليته للتغير إلى درجة أنه يمثل نوعاً من «العقيدة» لدى روسيا، وهذا ما يزيد من فرص التحالف معها في هذا الملف. وإذا كان تهديد الإرهاب مرشحاً للبقاء على خطورته سنوات، فإنه يمكن أن يكون أساساً متيناً للتعاون في ملفات أخرى تتقارب فيها مصالح الخليج وروسيا.
إن أي مراقب لمعدل الزيارات المتبادلة بين المسؤولين في روسيا ودول الخليج خلال السنة الماضية سيلمس نشاطاً غير عادي فيها، وحتى دول الخليج التي كانت علاقاتها مع روسيا أقرب إلى التوتر لم تكن استثناءً، إذ تم تبادل الزيارات على أرفع المستويات. واهتمام روسيا بالقضايا العربية يبدو جلياً، إلى درجة أن وجه وزير خارجيتها سيرغي لافروف أصبح أكثر حضوراً في الأحداث العربية من بعض المسؤولين العرب. ورافق ذلك نمو ملحوظ في العلاقات الاقتصادية الخليجية - الروسية، وتعدد مجالات التعاون الاقتصادي ونمو الاستثمارات الخليجية في روسيا.
الفصل بين الملفات سيكون أسلوباً مُتبعاً في العلاقات مع روسيا، وهو أمر واقع منذ أكثر من سبعة شهور، فالتدخل العسكري الروسي في سورية كان كفيلاً في ظروف أخرى بتدمير العلاقات الخليجية - الروسية بسبب تعارض المواقف، لكن ما حدث أن خطوط الاتصال بين موسكو وعواصم الخليج أصبحت مفتوحة أكثر بكثير من ذي قبل. وهذا الاتفاق على الفصل بين الملفات، والتعاون في ما تتلاقى فيه المصالح يجعل التحالف متيناً، لأنه ليس بناءً مترابطاً ينقضُّ كاملاً أو يقوم كاملاً، بل إدراك واعٍ لمواطن الاتفاق والاختلاف.
وفي هذا السياق، قال أحد السفراء الخليجيين البارزين قبل أيام إن الإعلام الروسي يخدم التوجهات العربية، وإن هناك مصالح مشتركة لروسيا مع دول المنطقة، وهي مصالح مختلفة عن رؤية الولايات المتحدة، وهذه من بين السمات التي يلزم التركيز عليها من أجل حل مشكلة التطرف الإسلامي. وقال السفير الخليجي إنه على رغم الخلافات مع روسيا في شأن طريقة حل الأزمة السورية فإن الدول العربية تتفهم مصالح روسيا في المنطقة.
يجمع بين روسيا وكثير من دول الخليج في الوقت الحالي ما تتسم به من حيوية سياسية لافتة، ونزوع إلى المبادرة التي تبلغ حد الجرأة، والقدرة على توظيف كل أدوات القوة والتأثير من أجل تحقيق أفضل النتائج، والتحركات السريعة والقوية في مواجهة الأحداث. ومن شأن ذلك أن يجعل التفاهمات أسهل، فالتفكير بطريقة متقاربة يزيل كثيراً من العوائق أمام إبرام الاتفاقات وعقد التحالفات.
وعلى صعيد التهديد الثاني للاستقرار، المتمثل في التحركات الإيرانية، فإن تعميق علاقات التعاون مع روسيا من شأنه أن يحد من إمكان تشكيل محور روسي - إيراني يبحث عن امتدادات له في المنطقة. وبدل أن تصبح روسيا حليفاً محتملاً لإيران فإنها ستصبح حليفاً لدول الخليج، أو على الأقل يمكن تحييدها في هذا الملف، وضمان ألا تصل العلاقات بين طهران وموسكو إلى الحد الذي يؤثر سلباً في المصالح الخليجية.
ويمكن في هذا الصدد توظيف الإمكانات الاقتصادية لدول الخليج وتعزيز الاستثمار الخليجي في روسيا وزيادة مشتريات السلاح وعقد اتفاقات دفاعية معها بما يعزز تنويع مصادر التسليح أيضاً، علماً بأن معرض «آيدكس» الذي يقام في الإمارات شهد في الدورة الأخيرة حضوراً روسياً قوياً، تمثل في وجود كبرى شركات التصنيع العسكري الروسي التي عرضت نماذج ومعدات جديدة بمواصفات تقنية مميزة، وحضره وزير الصناعة والتجارة الروسي دينيس مانتوروف.
وتقترب الرؤية الروسية كثيراً من الرؤية الخليجية والعربية في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، إذ تلتزم موسكو بموقف متزن وداعم للحقوق العربية، يختلف عن مواقف الولايات المتحدة المنحازة إلى إسرائيل، ويختلف كذلك عن موقف الاتحاد الأوروبي الذي أصبح تابعاً للموقف الأميركي في هذه القضية. وتمتلك روسيا صورة ذهنية لدى العرب أفضل من صورة الولايات المتحدة وأوروبا، وهي أكثر قابلية لتفهمنا من الأميركيين والأوروبيين.
إن العدد الكبير لمسلمي روسيا يمكن أن يكون عنصراً داعماً للعلاقات الخليجية معها. ويشير بعض الإحصاءات إلى أن عدد المسلمين في روسيا قرابة 38 مليوناً، بما يمثل 20 في المئة من السكان تقريباً. وزاد عدد المساجد في روسيا بنحو 12 ضعفاً مقارنة بثمانينات القرن الماضي، إذ بلغ عددها ستة آلاف مسجد في مقابل 500 مسجد قبل ثلاثة عقود. وهذا العدد الكبير من المسلمين في حاجة إلى فهم صحيح ومستنير للدين الإسلامي بعيداً من التطرف والتشدد، ويمكن لتجارب ناجحة، مثل تجربة مركزي «هداية» و «صواب» في دولة الإمارات أو مركز الأمير محمد بن نايف للمناصحة والرعاية في السعودية، أن تؤدي دوراً مهماً في نشر الاعتدال بين مسلمي روسيا. ويمكن الاستعانة بهيئات مثل «مجلس حكماء المسلمين» أو «مجلس تعزيز السلم» لمنع التيارات المتطرفة من أن تستقطب أنصاراً من مسلمي روسيا. وسيكون هذا الجانب الفكري داعماً لجوانب أخرى للتعاون في مكافحة الإرهاب والتصدي له.
من المؤكد أن هناك بدائل وأوراقاً كثيرة لدى دول الخليج، بينها التحالف مع روسيا. وقد أثبتت دول الخليج أنها قادرة على استخدام أوراقها في شكل جيد، وفي الوقت المناسب، وهي قادرة على توسيع شبكة العلاقات والتحالفات الدولية وتقليص الاعتماد على الولايات المتحدة بما يلغي أي آثار سلبية للتحول الأميركي والتردد والاضطراب الذي اتسمت به الإدارة الأميركية الحالية في مواقفها من قضايا المنطقة.
غير أن ثمة أمرين لا بد من أن يكونا حاضرين في أذهان الدول الخليجية، أولهما أن أي تحالف ينبغي ألا يكون على حساب ثوابتنا العربية الإسلامية. والثاني أن أي تحالف، ولا سيما مع الدول الكبرى، ستكون له فوائده وانعكاساته الإيجابية، بشرط ألا ينصرف الخليجيون عن تنمية قدراتهم الذاتية والاعتماد على أنفسهم في حماية أمن المنطقة، ووضع استراتيجية تجعلهم قادرين على الاستغناء عن أي تحالف وصولاً إلى الاعتماد الكلي على أنفسهم، فهذا هو الضمان الحقيقي لتجنب السلبيات التي رافقت تجربة التحالف مع الولايات المتحدة.
راشد صالح العريمي- الحياة اللندنية