مكانك راوح
للمرة الأولى منذ عقد كامل، تمخّضت الانتخابات النيابية في الأردن في أيلول/سبتمبر الماضي عن برلمان تتمثّل فيه شخصيات معارضة.
فالمجلس التشريعي الجديد يضمّ 15 نائباً من جبهة العمل الإسلامي، الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين (خمسة نواب أقلّ مما كان متوقّعا)؛ كما يضم نسبة عالية، وأكثر من أي وقت مضى، من النواب الإناث (20 مقعداً من إجمالي 130 مقعداً في البرلمان)، بزيادة 15 مقعداً عما يتطلبه نظام الكوتا.
يُذكر أن القانون الانتخابي للعام 2016 طَرَحَ جانباً نظام "الصوت الواحد للشخص الواحد" الممقوت، لصالح شكلٍ من أشكال التمثيل النسبي. كما أن الهيئة المستقلّة للانتخاب أدارت عمليات الاقتراع بكفاءة واستقامة وفق كل المعايير والمقاييس.
كل هذا كان أخباراً طيبة. لكن، مع ذلك، لايزال الكثير من الأسئلة معلّقاً في الهواء، خاصة منها ماتعنيه هذه الانتخابات في السياق الأعم لمسألة الحوكمة في الأردن: هل إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية، تُصلح وتُصحّح العملية المُتجذّرة الخاصة بتجيير هذا التقسيم لصالح فئة معيّنة؟ وهل تُعتبر هذه الانتخابات خطوة يُعتدّ بها لتحقيق هدف الملك عبد الله الثاني بـ"تطوير أحزاب سياسية وتشكيل حكومات برلمانية؟" ثم: هل ستساهم الانتخابات في استعادة ثقة الناخبين الأردنيين المُتعبين والمُنهكين، بعد عقدٍ من شعورهم بأن عملية الاقتراع ليست أكثر من لعبة شكلية تتلاعب بها الحكومة؟
فلنقل، أولاً، أن إعادة توزيع الدوائر قد أدّت إلى رَصَفها بشكل أكثر اتساقاً مع حدود المحافظات. فهناك الآن 23 دائرة انتخابية، أي دائرة لكلٍ من المحافظات الـ12 زائد دوائر إضافية للمدن الكبرى كعمّان وإربد والزرقاء والمناطق البدوية. لكن مع ذلك، الخلل القديم لايزال مُقيماً في عملية التمثيل بين المناطق الريفية (حيث يقطن أنصار المَلَكِية) وبين المناطق الحَضَرية (التي يقطنها أردنيون من أصل فلسطيني يدعم العديد منهم جبهة العمل الإسلامي).
على سبيل المثال، ليس للدوائر في عمّان والزرقاء، التي يقطنها بكثافة أردنيون فلسطنييون، سوى نصف عدد المقاعد التي تُمليها نسبتهم السكانية. وفي المقابل، تحظى دوائر معان والكرك الجنوبية (حيث الكثافية السكانية لأردنيي شرق الضفة الذين يدعمون المَلَكية بقوة)، بمقاعد أكثر مرتين أو حتى أربع مرات مما تفترضه نسبتهم الديمُغرافية الأصغر.
علاوةً على ذلك، نسبة الاقتراع في الجنوب أيضاً أكثر كثافة. والسبب يعود، في الغالب، إلى التضامن القَبَلي، وربما أيضاً إلى إدراك الناخبين هناك بواقع تمثليهم الفائض عن نسبتهم. وقد لاحظت مراقِبَة دولية، هي ميشيل دنّ أحد كاتبي هذه السطور، إقبالاً يقترب من 55 في المئة في دائرة الطفيلة الجنوبية في 20 أيلول/سبتمبر، حيث ثلث الناخبين تقريباً مادون الخامسة والثلاثين. وفي المقابل، لم يلحظ المراقبون الدوليون في عمّان والمدن الشمالية الأخرى سوى حفنة من الناخبين، قلّة منهم من اليافعين.
وضع التمثيل النسبي نظاماً يفرض على كل المرشحين خوض المعركة الانتخابية في لوائح في دوائرهم. ولأن هذا النظام تضمّن اللوائح المفتوحة، مايعطي الناخبين حق التصويت للائحة وأيضاً لمرشح أو أكثر فيها، فقد أسفر ذلك عن تحفيز المرشحين على التعاون لتشكيل لائحة، لكنه دفعهم في الوقت نفسه إلى التنافس في مابينهم داخل هذه اللائحة. لقد فهم المرشحون والناخبون على حدٍّ سواء أن معظم اللوائح في ظل هذا النوع من التمثيل النسبي لن تنجح سوى في حصد مقعد أو مقعدين، ماعنى أن المرشحين الأقوياء لن يميلوا إلى خوض المعركة معا. ولذا، عمدت جبهة العمل الإسلامي إلى توزيع مرشحيها الأقوياء في أي دائرة على لوائح عديدة، بهدف تعظيم فرص نجاحها.
وهكذا، أدّى هذا النظام الانتخابي، الذي يُزعم أنه وُضع لتشجيع تشكيل أحزاب سياسية، إلى تشرذم الجماعات السياسية، وبات إلى حدٍّ بعيد أشبه بالنظام الانتخابي القديم الذي يستند إلى "الصوت الواحد للشخص الواحد". وغالب الظن أن البرلمان المنبثق عن مثل هذا النظام سيكون ضعيفاً بنيويّاً، وعاجزاً عن ممارسة صلاحياته التشريعية كما يجب، أو عن مراقبة السلطة التنفيذية.
وإذا أضفنا إلى هذا كلّه تدخّل السلطة التنفيذية، ولاسيما جهاز المخابرات، بشكلٍ كبير (لا بل سافرٍ أحياناً) في أعمال البرلمانات في الماضي، لأدركنا أسباب أزمة الثقة الهائلة التي تروم بين سكان الأردن وبين مؤسساتهم السياسية، وعلى رأسها البرلمان. فقد أظهرت نتائج استطلاع وطني أُجري برعاية المعهد الجمهوري الدولي الأميركي في العام 2016، أن 87 في المئة من الأردنيين عجزوا عن تحديد إنجاز إيجابي واحد حقّقه البرلمان المُنقضية ولايته، وأن ثقة المواطنين بحكومتهم تراجعت بحدّة. وقد بان فقدان الثقة بوضوح في نسبة الإقبال الضئيلة هذا العام، والتي قُدِّرت بـ37 في المئة، أي أدنى من نسبة 41 في المئة التي سُجِّلت في العام 2013، على الرغم من الحملة القويّة التي قادتها الهيئة المستقلّة للانتخاب لدفع الناخبين إلى صناديق الاقتراع.
على الرغم من كل ذلك، ثمة بارقة أمل. فوجود معارضة حقيقية، وإن ضعيفة، داخل البرلمان، من شأنه أن يسهم في ردم فجوة الثقة هذه. وقد حصدت لائحة "معاً"، التي تُطالب بقيام دولة علمانية وديمقراطية، مقعدين في دائرة واحدة من دوائر عمّان، على الرغم من تعرُّض أعضائها إلى هجوم شرس وجائر، تتوّج باتّهامهم بالإلحاد من طرف الإسلاميين.
سيكون مثيراً متابعة التطورات، لمعرفة ما إذا كان هذا التوجّه الليبرالي سيواصل النمو والازدهار، في وقتٍ فَقَد النواب السابقون الذين حملوا أيضاً راية الديمقراطية مقاعدهم.
مروان المعشّر، ميشيل دنّ – مركز كارنيغي