الأوراسيا – "الأرض المتوسطة" .. بيوتر نيكولايفتش سافيتسكي
ربما كان بيوتر نيكولايفتش سافيتسكي (1895 – 1968) الكاتب الروسي الأول و"الوحيد" الذي يمكن وصفه بالعالم الجيوبوليتيكي بكل ما في الكلمة من معنى. وهو اقتصادي من حيث الاختصاص. هاجر بعد الثورة إلى بلغاريا ثم انتقل إلى تشيكوسلوفاكيا، وفي سنة 1921 ترأس برفقة الامير تروبيتسكوي الحركة الأوراسية التي كانت تلعب فيها العوامل الجيوبوليتيكة دورا مركزيا.
تكونت أفكار سافيتسكي بتأثير من أعمال مؤيدي السلافيانوفيل، وكان ذلك واحدا من مظاهر السلافيانوفيلية الثورية مقترنة بالفكرة المركزية حول خصوصية التميز التاريخي " لأبناء روسيا الكبرى" والتي لا ترتبط بالخصوصية الدينية ولا بالخصوصية الاخلاقية السلافية، وهو ما يعني " أن التقارب الاتني واللغوي بين الشعوب السلافية ليس شرطا كافيا للحديث عن وحدة ثقافية مميزة لهذه الشعوب". والحركة الأوراسية كانت قريبة من الثوريين المحافظين الألمان، من حيث التجذر في التقاليد القومية الروسية مع العصرنة الاجتماعية، والتطور التقني وسياسة الصيغ غير التقليدية. وعلى هذا أيضا يستند موقف الأوراسيين "الإيجابي" الحذر من الدولة السوفييتية ومن ثورة أكتوبر.
الفكرة الأساسية لسافيتسكي تتلخص في كون روسيا تمثل تكوينا حضاريا مميزا تحدده خاصية " التوسط". وتبدأ إحدى مقالاته بهذه الكلمات " لروسيا عدد من الأسباب يفوق بكثير ما لدى الصين من الأسباب التي تسمح بتسميتها دولة متوسطة".
وإذا كان "توسط" ألمانيا يتحدد بالقارة الأوروبية، و كانت أوروبا لا تزيد عن كونها الرأس الغربي للأوراسيا، فإن روسيا تحتل الموقع المركزي في إطار القارة ككل. و"توسط" روسيا بالنسبة لسافيتسكي هو أساس تفردها التاريخي. فهي ليست جزءا من أوروبا وليست امتدادا لآسيا. إنها عالم مستقل بذاته، واقع جيوبوليتيكي روحي-تاريخي مستقل يسميه سافيتسكي ب"الأوراسيا".
وهذا المفهوم لا يعني أرضا ولا قارة، بل فكرة انعكست في المجال الروسي والثقافة الروسية، إنها مقياس تاريخي، حضارة خاصة. وسافيتسكي لا يرى في سكان روسيا الكبرى مجرد فرع من السلاف الشرقيين بل تكوينا إمبراطوريا خاصا يلتقي فيه الأساسان "السلافي والتركي"، وهذه اللحظة تخرج به إلى موضوع هام وهو موضوع طوران.
كانت العودة إلى طوران كتوجه إيجابي أمرا فضائحيا بالنسبة للكثيرين من القوميين الروس. فبهذه الطريقة برر سافيتسكي بطريقة غير مباشرة الظلم المغولي التتري الذي بفضله "اكتسبت روسيا خصوصيتها الجيوبوليتيكية وحافظت على استقلالها الروحي عن العالم الرومانو-جرماني العدواني".
أما الثنائية المؤسسة للسطح التضاريسي الروسي –وتقسيمه إلى غابة وسهب- ، فهي أمر كان السلافيانوفيل قد لاحظوه من قبل. والمعنى الجيوبوليتيكي لأوراسيا يظهر لدى سافيتسكي كتركيب وتكامل لهذين الواقعين – الغابة الأوروبية والسهب الآسيوي.
وروسيا-الأوراسيا لا تنتهي في مجموعها إلى طوران، إنها شيء أضخم من ذلك. أما بالنسبة لأوروبا التي ترى في كل ما يخرج عن أطر وعيها "الساحلي" "همجية" فهذا استفزاز يكشف التفوق التاريخي والروحي للأوراسيين.
الإيديوكراتيا
يمثل مبدأ الإيديوكراتيا بعدا بالغ الأهمية في نظرية سافيتسكي. فقد كان يرى أن الدولة الأوراسية يجب أن تبنى على أساس الانطلاق من الدافع الأولي الروحي، وعليه فإن البنيان كله يجب أن يقوم في توافق مع الفكرة الأولية وعلى رأس هذا النظام يجب أن تقف طبقة خاصة من " القادة الروحيين".
كانت الإيديوكراتيا تفترض أولوية النظرة غير البراغماتية، اللامادية، اللاتجارية، وإن قيمة "الشخصية الجغرافية" تتجسد، برأي سافيتسكي، في القدرة على التسامي فوق الضرورة المادية، مع الجمع العضوي للعالم الفيزيائي في دافع روحي إبداعي واحد للتوزيع الكوني التاريخي.
الإيديوكراتيا مصطلح يجمع بين كافة صيغ الدوافع الديمقراطية، غير الليبيرالية للإدراة القائمة على بواعث لا مادية ولا نفعية. وإلى جانب هذا نجد سافيتسكي يتفادى عامدا تحديد هذا المصطلح الذي يمكن أن يتجسد في المجتمعية التيوقراطية وفي الملكية الشعبية والديكتاتورية الوطنية والدولة الحزبية ذات النمط السوفياتي. هذا الاتساع في المصطلح يتفق والآفاق الجيوبوليتيكية الصرفة للأوراسيا.
ومن الواضح أن الإيديوكراتيا تتعارض تعارضا مباشرا مع النظرة البراغماتية التجارية التي كانت طاغية في مقولات ماكندر، ماهان وسبيكمان. وعلى هذا فإن الأوراسيين وصلوا بالمصطلحات الإيديولوجية التي انعكست فيها المواجهة التاريخية بين "البحر والأرض" حتى أسمى درجات الوضوح. فالبحر هو "الديمقراطية الليبيرالية" ، "النظام التجاري، البراغماتية". والأرض هي الإيديوكراتيا (بجميع أوجهها)، الإدارة التدرجية، هيمنة المثل الديني الأعلى.