المحور الجيوبوليتيكي: موسكو – برلين والتناقض مع الأطلسية

19.10.2016

تمتلك الإمبراطورية الجديدة جسرا جيوبولتيكيا في الغرب هو أوروبا الوسطى. فأوروبا الوسطى تمثل تشكيلا جيوبولتيكيا طبيعيا موحدا من الناحية الإستراتيجية والثقافية، ومن الناحية السياسية إلى حد ما، أما من الناحية الاتنية فتدخل في هذا المجال شعوب الإمبراطورية النمساوية السابقة بالإضافة إلى ألمانيا وبروسيا وجزء من الأراضي البولندية والأوكرانية الغربية. والقوة المكتلة المركزية لأوروبا الوسطى هي، تقليديا، ألمانيا التي وحدت تحت سيطرتها هذا الخليط الجيوبولتيكي.

وتتمتع أوروبا الوسطى وفقا لتصورات طبيعية – جغرافية وتاريخية بطابع قاري "يابسي" بالغ الوضوح يتناقض مع الآماد "البحرية"، "الأطلسية" لأوروبا الغربية. ومن الناحية المبدئية يمكن للتأثير السياسي لأوروبا الوسطى أن يمتد جنوبا – إلى إيطاليا وإسبانيا وهو ما مهدت له أحداث تاريخية كثيرة. ومن الأكثر منطقية اعتبار العاصمة الجيوبولتيكية لأوروبا الوسطى مدينة برلين كرمز لألمانيا التي تعد بدورها رمز هذا التشكل في مجموعه ومركزه. وألمانيا والشعب الألماني فقط يتمتعان بجميع الخصائص اللازمة لتحقيق التكامل الفعال لهذه المنطقة الجيوبولتيكية – الإرادة التاريخية، الاقتصاد المزدهر بصفة رائعة، الوضع الجغرافي ذو الأفضلية، التجانس الاتني ووعي الرسالة الحضارية الخاصة. كانت ألمانيا القارية الإيديوكراتية تقف تقليديا في وجه انجلترا التجارية – البحرية، وخصوصية هذه المواجهة الجيوبولتيكية والثقافية لمست بطريقة ملحوظة التاريخ الأوروبي وبخاصة بعد أن تسنى للألمان إقامة دولتهم الخاصة.

من الناحية الجيوبولتيكية تبدو انجلترا الدولة الأقل أوروبية والتي تتناقض مصالحها الجيوبولتيكية تقليديا مع مصالح دول أوروبا الوسطى وبصفة أوسع مع الميول القارية في أوروبا. ومن ناحية أخرى فبصورة موازية لتفاقم دور الولايات المتحدة وانفرادها، عمليا، بالسيطرة الشاملة على المستعمرات الانكليزية، أخذ دور انجلترا الاستراتيجي بالتقلص، وهذه البلاد تبدو اليوم في أوروبا أقرب إلى أن تكون قاعدة الولايات المتحدة الأمريكية، القاعدة العائمة الخارجة عن نطاق الأرض منها إلى أن تكون قوة مستقلة.

ومهما يكن من أمر فإن انجلترا تبدو في نطاق أوروبا الدولة الأكثر عداء للمصالح القارية، خصم أوروبا الوسطى وبالتالي فإن الإمبراطورية الأوراسية الجديدة تجد في شخصها العدو السياسي، الإيديولوجي والاقتصادي. ومن الأمور الأقل احتمالا أن يتم التوصل بطريقة إرادية إلى تصديع الطريق الحضاري لهذه البلاد ذات الخصوصية والتي أقامت في حينها إمبراطورية تجارية – استعمارية جبارة ذات طابع "بحري" صرف، والتي ساعدت بكل الإمكانيات على ظهور مجموع الحضارة الغربية المعاصرة القائمة على التجارة، والكم والرأسمالية والمضاربات ولعبة البورصة. فذلك شيء غير واقعي على الإطلاق، وبتاء عليه تغدو انجلترا في المشروع الأوراسي وبصفة لا مفر منها "كبش الفداء" لأن العمليات الأوروبية للتكامل القاري ستجري بالضرورة ليس فقط دون احتساب المصالح الإنكليزية بل ويتناقض مباشر مع تلك المصالح. وفي هذا السياق يلعب دورا غير ثانوي الدعم الأوروبي، ثم بصورة أوسع، الدعم

الأوراسي للروح القومية الإيرلندية، السكوتلندية والويلزية حتى حدود تشجيع الميول الانفصالية واللااستقرار السياسي في بريطانيا العظمى.

التشكيل الجيوبولتيكي النقيض الآخر هو فرنسا. وقد حمل التاريخ الفرنسي في كثير من وجوهه طابعا أطلسيا يناقض التوجهات القارية والأوروبية الوسطى. وكانت فرنسا العدو التاريخي الأول لإمبراطورية النمسا والمجر، أيدت بكل الطرق الوضع التفتيتي للإمارات الألمانية متطلعة إلى "تقدمية" و"مركزية" ذات طابع لا تقليدي ومناقض للطبيعي. وعلى العموم فمن وجهة نظر تدمير التقليد القاري الأوروبي كانت فرنسا على الدوام في الطليعة وفي حالات عديدة كانت السياسة الفرنسية تتماهى مع الأطلسية الأشد عدوانية. وظل ذلك ساريا على الأقل حتى الوقت الذي أمسكت فيه الولايات المتحدة بناصية الدور العالمي لقطب الأطلسية الأعظم.

ويوجد في فرنسا توجه جيوبولتيكي بديل يعود إلى الخط القاري لنابليون (الذي رحب به غوته في عهده كقائد التكامل القاري في أوروبا) وهو ما تجسد في سياسة ديغول الأوروبية والذي بحث عن تحالف مع الألمان وعن تأسيس اتحاد أوروبي – كونفدرالي مستقل عن الولايات المتحدة. وإلى حد ما كان هذا الخط يلهم مشاريع ميتران الفرانكو – جرمانية. ومهما يكن من أمر، فبوسعنا، من الناحية الافتراضية، أن نتخيل لأنفسنا مثل هذا التحول للأحداث بأن تعترف فرنسا بأولوية عامل أوروبا الوسطى وأن تسير طواعية نحو المشاركة في المعسكر الجيوبولتيكي الأوروبي ذي التوجه القاري المعادي لأمريكا. والأراضي الفرنسية هي العامل الضروري للمعسكر الأوراسي في الغرب، فبه ترتبط، وبصورة مباشرة، السيطرة على الساحل الأطلسي ويرتبط طبقا لذلك أمن الإمبراطورية الجديدة في المناطق الغربية. والحلف الفرانكو – جرماني على أية حال هو الحلقة الرئيسة للجيوبولتيكا الأوراسية في الغرب القاري بشرط أن تكون الأفضلية هنا لمصالح أوروبا الوسطى وبالذات لاكتفائها الذاتي واستقلالها الجيوبولتيكي. ويعرف هذا المشروع باسم "الإمبراطورية الأوروبية". وتكامل أوروبا تحت راية ألمانيا كأساس لمثل هذه الإمبراطورية الأوراسية يتسق تماما والمشروع الأوراسي ويبدو الأكثر قبولا في قضية تكامل قاري أكثر عالمية.

ولن يكون لجميع التوجهات نحو الوحدة الأوروبية حول ألمانيا (ألمانيا الوسطى) أي مغزى إيجابي إلا بمراعاة شرط أساسي واحد – وهو إقامة المركز الجيوبولتيكي، الاستراتيجي الثابت موسكو – برلين وأوروبا الوسطى لا تملك بمفردها المقدرة السياسية والعسكرية الكافية لتصل إلى الاستقلالية الحقيقية عن الهيمنة الأطلسية للولايات المتحدة. وفضلا عن ذلك يصعب في الظروف الحالية توقع حدوث صحوة قومية وجيوبولتيكية حق بمعزل عن التأثير الثوري للعامل الروسي. أن الإمبراطورية الأوروبية بدون موسكو، والأوراسيا بكلمة أوسع، ليست عاجزة فقط عن أن تنظم بصورة كاملة مداها الاستراتيجي إزاء نقص قدراتها العسكرية ومبادرتها السياسية ومواردها الطبيعية بل وإنها لا تملك، في المعنى الحضاري، المثل والتوجهات الواضحة، لأن تأثيرات النظام التجاري والقيم السوقية الليبرالية قد أصابت بشلل عميق أسس الرؤية الوطنية للشعوب الأوروبية، وعطلت النظم القيمية العضوية التاريخية لها. والإمبراطورية الأوروبية لن تصبح واقعا جيوبولتيكا وحضاريا مكتملا إلا تحت تأثير طاقة إيديولوجية وسياسة وروحية جديدة تنطلق من أعماق القارة أي من روسيا. وفضلا عن ذلك فبإمكان روسيا والروس فقط أن يقدما لأوروبا الاستقلال الاستراتيجي والاكتفاء الذاتي بالموارد

الطبيعية. ولهذا يجب أن تشكل الإمبراطورية الأوروبية بالذات، الواقعة على محور مباشر مع موسكو.