الطعنة - الهدية
أجمل الهدايا تأتيك من أعدائك. حين يخطئون التقدير والحساب. ويستدرجهم الحقد والذعر إلى التهور. يتوهمون أن الرياح مواتية لتسديد طعنة نجلاء. ما أصعب إقناع الكولونيلات بأن العالم تغيَّر! وأنه لم يعد يكفي احتلال الإذاعة والتلفزيون لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
قبل أن يغلبه النعاس يبتسم ويسترجع شريط الأحداث. ما كان أقسى تلك الليلة! تصوَّر لو أنهم نجحوا، وأنهم دفعوني إلى زنزانة شبيهة بزنزانة محمد مرسي. أغلب الظن أن بشار الأسد سهر ينتظر خبراً ساراً. وأن عبدالفتاح السيسي لم ينم باكراً، وأن فتح الله غولن كان يستعد للاحتفال.
تدخّل الشعب، والأحزاب، والمؤسسات. وتدخّل الحظ أيضاً لإنقاذه من سوء المصير. رسالة مصوَّرة ومقتضبة منه عبر هاتف ذكي، تلقّفها أنصاره وتدفّقوا إلى الشوارع. حاصروا المجموعات التي كانت تحاول إحكام الحصار على المواقع الحسّاسة. وتدخّل الحظ حين رفض الجسم الأساسي في الجيش الانضمام إلى المغامرة. هكذا ضلّت الطعنة طريقها وارتدت إلى مسدّديها. لا أعداء الداخل احتفلوا ولا خصوم الخارج ناموا في رحاب البهجة وتصفية الحسابات.
ما أجمل أن يطيش سهم أعدائك ويرتد إلى نحورهم، وأن تستحيل مؤامرتهم فرصتك الذهبية. وأن تطل على العالم رمزاً للشرعية، وحارساً لمرمى الجمهورية. وأن تؤكد شعبيتك، وتلمع صورتك. وأن تغرق في حشود جماهيرية ملتهبة. وأن تحصد تفويضاً ميدانياً واسعاً يفوق متعة الفوز في الانتخابات!
جاءت الطعنة - الهدية في التوقيت المناسب. كانت صورة السلطان شرعت في الاهتزاز. سياسة «تصفير المشاكل» انتهت بـ «تصفير الصداقات». والملفات أظهرت بطلان الحسابات. لم يعد النموذج التركي مغرياً لأحد على غرار ما كان في بدايات «الربيع العربي». اصطدمت سفينة السياسة التركية بصخور كثيرة، وتراكمت خسائر الاقتصاد بالبلايين.
كان خصومه يستعدون لمحاسبته. قالوا أنه بالَغَ في الاتهامات وافتعال الأزمات. ولم يدرك خطورة اللعب مع الذئاب. وأنه سهّل مرور الإرهابيين متوهّماً أنهم يعملون في اتجاه واحد. ولم يتعلّم من تجربة النظام السوري حين مرّر الجهاديين إلى العراق وها هو يحصد ما زرع. وأنه تنكّر لوعوده للأكراد فعادت قنابلهم إلى الانفجار بجنوده. وأن أخطاءه مع واشنطن وموسكو معاً دفعتهما إلى رعاية أكراد سورية ووضعهم على طريق إقليم في دولة فيديرالية.
كانت صورة السلطان شرعت في الاهتزاز، وهبّت على نظامه رياح العزلة. صارت بلاده شبه مطوّقة بـ «الوحدات الكردية» وميليشيات الجنرال قاسم سليماني. وفي العواصم الغربية شكوك عميقة حول موقفه من أزمة اللاجئين، فضلاً عن الديموقراطية والعلمانية. وكانت موسكو تنتظر ساعة تصفية الحسابات. انحنى السلطان للعاصفة. اعتذر من القيصر. وأعاد العلاقات الدافئة مع إسرائيل. ولوّح بمراجعة للعلاقات الشائكة مع جيرانه.
فجأة ارتكب الكولونيلات غلطة العمر. تدخّل الحظ وتدخّل الشعب وتوحّدت الأحزاب. وسواء أحببته أم كرهته، إنه رقم صعب. يذهب إلى انتخابات حرة ويرجع منتصراً. وهذا ليس قليلاً ولا شائعاً. أنقذ «فتى إسطنبول» الجمهورية وانقضّ باتهاماته على الداعية المقيم في بنسلفانيا. وبدأت رؤوس الضباط والقضاة في التدحرج. أغلب الظن أن كمال أتاتورك مات ثانية حين رأى عسكريين يرفعون أيديهم مستسلمين لعسكريين آخرين جاؤوا في صحبة مدنيين.
طُوِيت صفحة في تركيا وفُتِحت أخرى. السؤال الكبير ماذا سيفعل «فتى إسطنبول» بهذا الرصيد الواسع الذي وفّرته له الطعنة - الهدية؟
نشرت للمرة الأولى في افتتاحية الحياة اللندنية