الصين وتجربة الإصلاح السياسي

14.07.2016

في ظل التطورات الاقتصادية والاجتماعية المتلاحقة التي يشهدها العالم، يفرض الإصلاح نفسه على الواقع السياسي للدول، الصغيرة منها والكبيرة، بصرف النظر عن طبيعة نظامها السياسي. ذلك أن تكييف آليات النظام السياسي بما يتلاءم مع المتغيرات الحاصلة يصبح مُلحّاً. وإلا فإن تجربة الحكم لأي دولة تُضحي محفوفة بالمخاطر غير المتوقعة، في حال عدم تطوير آليات جديدة للتكيّف مع الوقائع المجتمعية والسياسية المستجدّة.

وعليه، فقد ترتّب على قيادة الحزب الشيوعي الحاكم في الصين إنجاز جملة إصلاحات فرضت نفسها على النظام السياسي للدولة، واستدعت إجراء تغييرات في هيكلية الدولة والحزب، بما يتلاءم مع طبيعة وحجم التحوّلات المتسارعة. فما هي طبيعة الإصلاحات السياسية التي شهدتها وما زالت تشهدها الصين، منذ بداية ما سُمّي بعصر الإصلاح والانفتاح؟

بداية لا بدّ من القول إن المجتمع الصيني يُولي أهمية منذ آلاف السنين للقرار الفردي، أو ما يُسمّى بالسلطة الشخصية. في المقابل، وحتى مراحل متأخّرة، ظلَّ المجتمع الدولي ينظر إلى الإصلاحات التي كانت تُطرَح في الصين، بدءاً من الثورة الثقافية التي أجراها الزعيم ماو تسي تونغ العام 1956، وصولاً الى برامج التحديثات المتعاقبة في بنية الدولة وأجهزتها، على أنها اقتصادية محضة، من دون أن يُسجـّل فعلياً أي إنجاز في عملية الإصلاح السياسي.

وقد أدرك الحزب الشيوعي الصيني خطورة هذا الأمر. فشرع بعد تنفيذ سياسة الإصلاح والانفتاح التي قادها الزعيم الذي سُمّي بـ «رائد الإصلاح» دنغ شياو بنغ، بدءاً من نهاية ثمانينيات القرن الماضي، في إرساء إصلاحات في بنية النظام السياسي وهيكلياته التنظيمية، وفي إعادة بناء النظام القانوني الحديث للدولة على مختلف الصعد، خاصة ما يتّصل منها بتحديث النظام السياسي والتمثيل الشعبي، وتأمين مصالح المواطنين وتلبية حاجاتهم الاجتماعية والاقتصادية، عبر تطوير الهيكل الإداري للدولة الذي تميّز بمركزية شديدة على مدى عقود طويلة.

والحقيقة أن الحكومات الصينية المتعاقبة التي عملت تحت شعار سياسة الإصلاح والانفتاح، أنجزت تغييرات كبيرة في نظمها السياسية الداخلية. هذه التغييرات يمكن رصدها في مجالات عدة:

إصلاح نظام قيادة الحزب والدولة
قبل الإصلاح والانفتاح، سيطر نظام المركزية المفرطة لقيادات الحزب والدولة على الإدارة السياسية في الصين. وقد تطوّر الخطاب السياسي للحزب الشيوعي الصيني بدءاً من أواخر القرن الماضي، فصار يدعو إلى تطوير الديموقراطية في البلاد، تماشياً مع التطور الذي يشهده المجتمع الصيني في وعيه وفي المجال الاقتصادي. كما بُذلت جهود كبيرة لإصلاح نظام القيادة في الحزب والدولة في مؤتمرات عدة للحزب، فتمّ اعتماد نظام التقاعد وتقييد مدة الخدمة وإقرار نظام القيادة الجماعية للدولة والحزب.

وفي المؤتمر الوطني الخامس عشر للحزب الشيوعي الصيني سنة 1997، أُجريت تعديلات على هيكلية المكتب السياسي واللجنة الدائمة للمكتب السياسي واللجنة المركزية للحزب، والتي تعتبر الأذرع الرئيسية للتخطيط السياسي في الصين. وفي المؤتمر الوطني السادس عشر للحزب الشيوعي الصيني سنة 2002 تمّ تجديد القيادة، حيث انتقلت السلطة بسلاسة من جيل إلى جيل. كان ذلك إيذاناً بانتهاء نظام أبدية السلطة والمركزية المفرطة لسلطة كبار قادة الحزب والدولة.

وتجدر الإشارة الى أن المؤسسات التثقيفية في الحزب الشيوعي الصيني أفرزت مجموعة قيادات ممتازة ومؤهلة سياسياً من الجيلين الثاني والثالث، وآليات لتجديد مبادئها وسياستها بانتظام، في ما يُعَدّ تغييراً عميقاً للنظام السياسي الصيني، ونجاحاً غير مسبوق للتطور السياسي في البلاد.

وبرزت تغييرات كبيرة أيضاً من خلال إصلاح نظام قيادة الحزب والدولة خلال المؤتمر الوطني السابع عشر للحزب الشيوعي الصيني الذي عُقد سنة 2007، حيث بدأ انضمام مزيد من المسؤولين على المستوى القاعدي إلى مجموعة القيادة المركزية الصينية. وقبل انعقاد هذا المؤتمر أجري استطلاع رأي لأربعمئة كادر كبير حول المرشحين لعضوية المكتب السياسي للحزب. ومن ثم فإنه في تشكيل المجموعة القيادية الصينية ظهرت مشاركة معتَبرة من القاعدة إلى القمة، حيث اشترك المزيد من المسؤولين في اختيار المجموعة القيادية، في ما يُعَدّ معلماً للتطور الديموقراطي للحزب الشيوعي الصيني.

تماشياً مع التطورات التي تتطلب إصلاحات في البنية السياسية، أنشأ النظام الاشتراكي الصيني أربعة أنظمة متطورة وهي: نظام مجالس نواب الشعب، نظام التعاون المتعدد الأحزاب والتشاور السياسي، نظام الحكم الذاتي الإقليـمي القومي (المناطق والإقاليم)، ونظام الإدارة الذاتية للجماهير في الوحدات القاعدية (التأهيل السياسي والحزبي).

والمجلس الوطني لنواب الشعب هو أعلى سلطة في الصين، ويبلغ عدد مندوبيه حوالى ثلاثة آلاف، ويتخذ القرارات الكبرى في الدولة. وهناك ثمانية أحزاب سياسية تشارك في الحكم، ويتم الاستماع لآرائها وآراء الشخصيات غير الحزبية (المجتمع المدني)، وعلى أساس ذلك يتخذ القرار.

إصلاح النظام الإداري
في العام 1980، طالب الزعيم الراحل دنغ شياو بينغ بإصلاح النظام الإداري لقادة الحزب والدولة، وذلك من أجل التغلب على النزعة البيروقراطية ومكافحة السلطة الأبوية ولا مركزية السلطة، وتطبيق القيادة الجماعية وتنمية روح الديموقراطية داخل الحزب. وبالفعل، في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، راح التداول بمصطلحات سياسية جديدة يأخذ مدى غير مسبوق، كالحديث عن الحوار، والشفافية، والعلانية، وإصلاح الإدارة...

وقد نشرت اللجنة المركزية للحزب في التاسع من شباط 2015 وثيقة شاملة تقترح جملة نقاط لتعزيز ما وصفته بالديموقراطية التشاورية، بهدف توسيع مشاركة الشعب في السياسة، وفي إدارة واقعه المحلي ومتطلباته الاجتماعية. وأجريت استفتاءات شاملة أظهرت رغبة في تحديث وتجديد أساليب الحكم وتطوير النظام السياسي. وبالنتيجة، فإن الدولة الصينية، في إطار هذه الإصلاحات، لا بدّ لها من تطبيق القانون على نحو شامل، وعلى أساس استغلال قدرات في جميع الميادين على أساس الرؤية الاشتراكية ووفق قواعد المحاسبة والمساواة، فضلاً عن تعميق الإصلاحات والانفتاح على الخارج.

تطوير البناء الاجتماعي
إن العلاقة بين الدولة والمجتمع عنصر مهم في النظام السياسي. ومنذ اعتماد سياسة الانفتاح، أجرت الصين، حزباً وحكومة، إصلاحات لتعديل العلاقة بين الدولة والمجتمع، ما قدم المزيد من الفرص للمواطنين للتعبير عن آرائهم.

ومع الانفتاح الاقتصادي الكبير، ازدادت حرية المواطن الصيني في مجالات التنقل والسكن والعلاج والدراسة والترفيه والاستهلاك. لم تعد الحكومة تدير حياة الناس مباشرة. وصار انتقاد المواطن الصيني لسياسات الحكومة وأداء المسؤولين الحكوميين أمراً عادياً.

ويبلغ عدد موظفي ومتطوعي المنظمات غير الحكومية في الصين أكثر من مليون فرد، يعملون في مجالات الأعمال الخيرية وحماية البيئة وحماية حقوق الإنسان، وغيرها من الأمور التي تهم المواطن. وتعتبر هذه المنظمات منصة لإبراز القدرات الإبداعية الخلاقة للجماهير، وتلعب دوراً إيجابياً في تحسين حياة الموطنين والتصدي للكثير من الإشكاليات الاجتماعية. وتعكف الحكومة الصينية حالياً على استكشاف وتجربة أساليب جديدة لإدارة المنظمات غير الحكومية.

وفي خطة طموحة، تسعى القيادة الصينية اليوم إلى تحقيق «مجتمع الرفاه» العام 2020، من خلال تطوير خطة «الإصلاح المعمق» على نحو يشمل بنية وأطر المؤسسات التشريعية والحزب الشيوعي ومؤسسات الدولة الحكومية، والإشراف على المؤسسات الخاصة ذات الطبيعة الاقتصادية والإنمائية والخدماتية، مع الاحتفاظ بالخصائص التي تميّز الاشتراكية الصينية. ويتوقع أن تؤثر هذه التغيرات إيجاباً على الصين وعلى علاقاتها بالعالم الخارجي، لا سيما الدول الكبرى ودول الجوار ودول العالم الثالث. وتسعى الصين في هذا السياق، بعد تدعيم بيتها الداخلي، الى إعادة إحياء طرق حرير جديدة في البر والبحر. وما من شك في أن الدفع نحو البناء الاجتماعي المتماسك الذي يطلق عملية الانفتاح على الخارج بسلاسة، يتطلب رقابة صارمة على تنفيذ القوانين، وتطويراً دائماً للتشريعات السياسية والإدارية في آن.

جريدة "السفير"