الصين وأدوارها العالمية
عُقدت في الصين مؤخراً دورة تدريبية حول التعاون الاقتصادي الإقليمي، وقد شاركت في فعاليات الدورة 25 دولة، حيث مثـّل الدول المشاركة مسؤولون وباحثون متخصصون.
وقد قدّر لي أن أشارك في الندوات والمحاضرات والحلقات البحثية، بصفتي باحثاً في العلاقات الدولية ومتخصصاً بالشأن الصيني، حيث داخلت في فعاليات الندوات، وفي الكلمات التي تحدّثت عن اقتصاديات الدول المشاركة. كما كانت لي مجموعة لقاءات مع مسؤولين في وزارتي الخارجية ووزارة التعاون الدولي الصينية.
وعلى هامش الدعوة كانت زيارة للعديد من المدن الصينية، منها شانغهاي وفوجو وشامِن، وهي من المدن الرئيسية في أهميتها الاقتصادية والاستثمارية، وفي حيويتها بالنسبة للاقتصاد الصيني.
وقد أمضيت أياماً في مدينة شامِن الساحلية الجميلة، المعروفة بمبانيها التراثية وبمجمّعاتها الصناعية ذات التكنولوجيا العالية، وجسورها المعلّقة فوق بحيراتها الممتدّة في صفاء المحيط.
يلفت نظرك وأنت تتجه من المطار نحو المدينة الساحلية طول النفق البالغ حوالي 9 كلم تحت مياه المحيط الهادئ. أما جسورها المعلّقة بين الأرض والسماء فتزيد على العشرين بهندسة معمارية وفنية باهرة، وهي تعكس مستوى الاحتراف الذي وصلته الطاقات الصينية في الإبداع المعماري والهندسي.
وعند دخولك المدينة الهادئة يشدّك منظر حدائقها الغناء وساحاتها الفسيحة ومبانيها الشاهقة وبحيراتها الجميلة وجامعاتها ومؤسساتها الحسنة الترتيب. أما ميناؤها الضخم فهو عبارة عن خلية نحل لا تهدأ، إذ من أرصفته تخرج عشرات الآلاف من المستوعبات الى مختلف مناطق العالم، وبطريقة فنية وعلمية عبر برامج معلوماتية غاية في الدقة والإتقان.
وفي جوار «شامـِن» تقع واحدة من أهم وأضخم المجمعات الصناعية في الصين على الإطلاق (NEW LAND). إذ تحتوي منطقتها الصناعية على مؤسسات التكنولوجيا العالية، وفيها أكبر مراكز إنتاج القطع والمعدات الكهربائية والألكترونية والباصات والسيارات والمعدات المتطورة، في مجالات الطاقة والبيئة والري ومكافحة التلوث والتصّحر.
هذه واحدة من المدن الصينية، وهي ليست أكبر المدن ولا أهمها. لكنها نموذج حي للدلالة على مستوى عالٍ من النشاط والنمو الذي تشهده الصين في السنوات العشرين الأخيرة، ما جعلها محط أنظار الكثير من دول العالم، وصارت رقماً في معادلة السياسة الدولية، لما تمثله من حجم اقتصادي وسكاني يؤثر في أحداث المشهد الدولي لقرننا الحادي والعشرين.
ومن منطلق الحديث عن مستوى التطور المتسارع، الذي تشهده مدن الصين وبناها التحتية وشبكات إنتاجها ومصانعها ومؤسساتها الخدماتية والاستثمارية ذات البنى المتكاملة، يمكن القول إن الصين قد حققت جملة من الإصلاحات الداخلية، ما جعلها تقدم تجربة فريدة هي محط أنظار العالم، حيث استطاعت أن تنتقل بالمستوى المعيشي للمواطن إلى مستويات أفضل.
وتشير العديد من الدراسات في العلاقات الدولية إلى أن الصين ستكون اللاعب الدولي الأول، على اعتبار أن ميزان القوة في النظام العالمي يميل إلى آسيا بقوة في الوقت الحالي. لذلك، فإذا كان القرن العشرون أميركياً بامتياز، فآسيا مؤهّلة للعب مثل هذا الدور في القرن الحادي والعشرين.
ويبدو أن معدّلات النمو الكبيرة التي حققها كلٌ من الصين والهند، وظهور الصين كأكبر مركز صناعي ـ تسويقي في العالم، وثاني أكبر اقتصاد عالمي من حيث الإنتاج، أمور تؤكد أن التحوّل التاريخي للقوة والقيادة بدأ يحصل بالفعل.
لكن ثمة مَن يؤكد أن الصين لا زالت غير مؤهلة للعب مثل هذا الدور، نظراً لما تواجهه من مشاكل داخلية، كالفساد، والبطالة، والتفاوت الاقتصادي بين المناطق الساحلية والمناطق الداخلية، والنزاعات الانفصالية بين المناطق. وهناك تحديات إقليمية ودولية تحول دون لعب أدوار دولية، كاستمرار التوتر مع تايوان إضافة الى المنافسة اليابانية للمكانة الصينية، وحالة الحذر التي تميّز العلاقات الصينية ـ الأميركية.
وبرغم ذلك، فقد حققت الصين تحوّلات عدة على مستوى بُنية السلطة السياسية، توجّت بالانتقال من «نخبة الثروة إلى نخبة التحديث». ويظهر ذلك جلياً في العمل السياسي، الذي تغلب عليه النزعة البراغماتية. كما تسجل الصين توسيع هامش الحريات الفكرية والسياسية. أما على المستوى الاقتصادي، فثمّة مظهر آخر يتجلّى في تنامي الآليات الرأسمالية في بنية الاقتصاد الصيني.
في إطار العلاقات الخارجية، يبدو أن الصين تمشي بخطىً ثابتة تحكمها المصلحة والوعي الجيوسياسي الجديد، والذي يتطلب حنكة دبلوماسية عالية. فالصين كانت معروفة بتمردّها على مبادئ العلاقات الدولية، كما كان الحال في فترة ماو تسي تونغ، إلا أنها في السنوات الأخيرة اتخذت استراتيجية خارجية محورها تطوير الحوار والتنمية على المستوى الدولي، وتغليب البُعد البراغماتي على البُعد الأيديولوجي، كسياسة تتبعها مع دول الجوار الإقليمي، وتجنب المواجهة مع الولايات المتحدة، وتوسيع نفوذها في العلاقات الدولية عن طريق الانحراط في التكتلات الإقليمية الآسيوية كقمة شانغهاي، التي تضم روسيا والصين وبعض الجمهوريات الوسطى، ما سيوفر للصين مركزاً إقليمياً مؤثراً، لا سيما أن هذه المنظمة تتطور بثبات، من رابطة اقتصادية الى كيان إقليمي ذي تطلعات سياسية واقتصادية طموحة، الى جانب ذلك سعيها للالتحاق بـ «منظمة التجارة العالمية».
إن اتجاهات الدولة الصينية في سياستها الخارجية لم تخضع لتعديل يمكن ملاحظته في وثائق الحزب الحاكم، ولكن يمكن قراءة الموقف الصيني من خلال التصريحات الرسمية، حيث أكد الرئيس الصيني هو جينتاو أن الصين «لا تنوي ممارسة سياسة الهيمنة على غيرها من الدول، حتى لو أتيحت لها الظروف لذلك».
كما اشتمل دستور الحزب في برنامجه العام على ما يؤكد حرص الصين على المساهمة في الاستقرار والسلام العالميين، وتجنب المواجهات، واعطاء النمو الاقتصادي الأولوية على السياسة تحت شعار: «إن نمو الصين يمثل فرصاً كبيرة، لا تحدياً كبيراً».
في إطار هذا الخط الديبلوماسي المرن الذي اختارته الصين لتوسيع دائرة مصالحها من خلال الارتكاز على نقاط جغرافية معينة، لقيت ترحيباً واسعاً من العديد من الدول، لاسيما في الشرق الأوسط وإفريقيا، حيث أبرمت الصين ودول إفريقية صفقات واسعة في مجال النقل والتكنولوجيا.
إلا أن ذلك يُخفي حقيقة أساسية لا يمكن إنكارها، وهي أن النفوذ الصيني يتنامى عالمياً، لاسيما بعد نهاية الحرب الباردة، وأفول عصر الثنائية القطبية لمصلحة الهيمنة الأميركية الأحادية على القرار الدولي. وهذا ما دفع الرئيس الأميركي بوش إلى تبنّي قرارات جديدة ومتتالية بتفعيل الحضور الأميركي العسكري والديبلوماسي والتجاري في نقاط مهمة من العالم. ويفسر البعض ان سبب تبني هذه التوجهات هو التخوف من الإجتياح الإقتصادي والتجاري الصيني المتزايد في أنحا ء كثيرة من أرجاء المعمورة.
في الخلاصة، فإن الحضور الصيني في العالم لا يحكمه البُعد الاقتصادي فقط إذ ثمة مؤشرات الى حراك صيني سياسي واسع يواكب النجاحات الإقتصادية، ما يطرح أكثر من بُعد في هذا المجال. من هنا، فإن العامل الاقتصادي ليس هدفاً وحيداً بحد ذاته، إنما يتفاعل معه البُعد السياسي البرغماتي، الذي يؤسس لمشاركة فاعلة وحضور قوي في ميزان القوة العالمي.
جريدة "السفير"