الصين: من أفغانستان إلى ميانمار
"لن تتفاوض ـ أي حركة طالبان ـ مع الولايات المتحدة الأميركية، في حين أنها رحّبت بالوساطة الصينية باعتبار أن بكين تتبع سياسة عدم التدخل في شؤون الدول التي تتعامل معها".
ردّد هذه العبارة رئيس المكتب السياسي لحركة «طالبان» عباس ستاناكزي أكثر من مرة، أثناء زيارته لبكين على رأس وفد من هذه الحركة، ما بين 18 و22 تموز الماضي بناء على دعوة من الحكومة الصينية. وبحسب الخبير في «المعهد الصيني للعلاقات الدولية» هوشيشانغ، وهو مقرّب من الحكومة الصينية، فـ«بخلاف المبادرات السابقة، ليست حركة «طالبان» ضد التوسط الصيني»، بل على العكس، تتمنى الحركة على الصين أن تلعب دوراً فعالاً لإعادة السلام إلى أفغانستان.
لدى استعراض موقف القوى الفاعلة على الساحة الأفغانية، تأتي في طليعة هذه القوى الصين التي لم يتغير موقفها جذرياً من الحكم الأفغاني برغم التطورات والاضطرابات المتعددة التي عانى منها هذا الحكم. فالفرق الصينية العاملة على هذه الساحة بقيت تنفذ التزاماتها بحسب العقود القائمة بين الطرفين، ومنها «المجموعة الصينية للتعدين» التي تملكها الدولة وتدير عملية بحجم ثلاثة مليارات دولار في منجم «إيناك» للنحاس في إقليم «لوجار» الشرقي. ويُعَدّ هذا المنجم، الذي يبعد عن العاصمة كابول 35 كيلومتراً، أحد أكبر مصادر النحاس في العالم. إذ يُقدّر حجم المعدن فيه بنحو 11 مليون طن. وبرغم تعرض هذه المجموعة لهجوم بالصواريخ، فهي لم توقف العمل. كما أن هناك فرقاً أخرى تعمل في حقول النفط الخام والحديد واليورانيوم ومعادن أخرى تقدر بمليارات الدولارات. وبموجب الاتفاقات المعقودة بين البلدين، فإن بكين رصدت مليارات الدولارات كمساعدات للحكومة ولتدريب آلاف الأفغان خلال السنوات الخمس المقبلة، فضلاً عن بناء طرق سريعة في مختلف أنحاء البلاد، ومحطات للطاقة الكهرومائية لتصدير الكهرباء إلى باكستان وتمويل سكة حديد تصل «شامان» الواقعة في جنوب شرقي أفغانستان بقندهار.
في إحدى الزيارات التي قام بها الرئيس الصيني تشي جينبينغ لأفعانستان، وبعد اجتماعه بالمسؤولين الأفغان الكبار، قال إن بلاده تدعم بقوة تصدّي أفغانستان للإرهاب ولن تسمح بأن تُستخدم أراضيها لأي أنشطة إرهابية تستهدف الصين. وهذا يعني كما يقول مراقبون إن أفغانستان لن تسمح بتنقل المتمردين والانفصاليين «الويغور» في إقليم شينيانغ من هذا الإقليم إلى أفغانستان، ولا بمرور المساعدات إليهم عبر أراضيها.
إن الاطمئنان الصيني يتأتى عن الاستراتيجية التي تتّبعها بكين في تعاملها مع الدول الأخرى، خاصة عندما تكون هذه الدول غنية بالمواد الأولية. فاستراتيجية عدم التدخل في شؤون هذه الدول هو الأعمدة التي ترتكز إليها السياسة الصينية، وقد حققت النجاح المطلوب، إلى جانب نوعية المساعدة التي تقدمها الصين، والتي لا تعتمد على المال فقط، بل أيضاً على تنفيذ مشاريع حيوية تخدم المواطن العادي بصرف النظر عن طبقته الاجتماعية.
وتُعَدّ «حركة طالبان» من القوى الفاعلة على الساحة الأفغانية. وقد حاولت قوى عالمية بث الحياة في محادثات السلام التي كانت تجري في أفغانستان على مدى السنوات، لكن جهود ضم «طالبان» إليها فشلت مراراً، وذلك لاعتبار مهم هو أنها لا ترغب في التفاوض مع واشنطن، في حين رحّبت بالوساطة الصينية.
توازياً مع هذه الجهود، وعلى مدار خمسة أيام، بسطت السلطات الصينية السجادة الحمراء لأونغ سان سوتشي، مرشدة الدولة البورمية ووزيرة خارجيتها، في أول زيارة تقوم بها للخارج بدعوة من بكين لتلتقي بالرئيس الصيني ورئيس البرلمان ورئيس الحكومة. في جعبة سوتشي عدد لا بأس به من الموضوعات التي ترغب في مناقشتها، من بناء سدّ مياتسون الواقع شمال بورما على الحدود الصينية، مروراً بالحصول على دعم الحكومة الصينية في مفاوضات السلام التي تنوي إجراءها مع مجموعات مسلحة تنشط في بورما، وصولاً إلى العلاقات الثنائية بين الدولتين.
وقد كان السد المذكور مثيراً للجدل. فقد اعتبرته المعارضة البورمية رمزاً للهيمنة الاقتصادية الصينية على بورما، وخرجت هذه المعارضة إلى الشوارع في تظاهرات شعبية، ما دفع المجلس العسكري الحاكم في تلك الفترة إلى حل نفسه. ولدى تولي نظام شبه مدني السلطة خلفاً له، قرر تجميد مشروع السد، وهو ما أثار غضب بكين. لكن عندما تولت «الرابطة الديموقراطية» برئاسة سوتشي السلطة، أعادت إحياء المشروع عبر تشكيل لجنة مختصة لدراسة الجدوى منه. وقد امتدح المسؤولون الصينيون هذه المبادرة، علماً أن تكاليف بناء السد تبلغ حوالي 6,3 مليارات دولار، ستدفعها بكين بقصد توليد الكهرباء التي ستستفيد منها مناطق صينية. أما بخصوص الدور الصيني في الدفع نحو الحوار في بورما التي تُعاني من نزاعات مسلحة بين إثنياتها، فإن ما تطمح إليه سوتشي هو نجاح المؤتمر الذي دعت إليه ويحضره الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، علماً أنها تنتظر من الصين أن تدفع بالمجموعات الإثنية المسلحة للمشاركة في عملية المصالحة. وتعتقد سوتشي أن الصين أظهرت مقدرة على تحقيق ذلك. وقد تجاوب فريق من المتمردين وأعلن عن مشاركته في المؤتمر بعدما أرســلت بكين مبعوثاً لحضوره. كما تردّد أن الصين منحت 3 ملايين دولار للحكومة المركزية البورمية كمصاريف مؤقتة لعملية السلام.
ويعتقد كثير من المراقبين أن الإثنيات البورمية المتصارعة التي تدير أراضيها الخاصة منذ عقود على الحدود مع الصين، تعيش ما يشبه «الاستقلال الذاتي» عن الحكومة المركزية، وهو ما سمح لجماعات منها بالتفرّغ لتهريب السلع والمخدرات، خصوصاً مادة الهيرويين التي أصبحت بورما الثانية على مستوى العالم في إنتاجها، وتؤمن لها مداخيل مهمة. وهو ما زاد من صعوبة إبرام تسوية مع الحكومة البورمية المركزية.
من هنا، فإن عملية السلام ستكون طويلة ومعقّدة، وبكين تعي ذلك. فهي تستخدم شتى أنواع المغريات لإقناع المجموعات الإثنية الأقلوية بأن السلام يؤمن لها حياة طبيعية هادئة.
نشرت للمرة الأولى في "السفير"